مما ابتليت به أمة الإسلام منذ هدم الخلافة إعلام مُوَجَّه لتضليل المسلمين، وصرفهم عن التفكير المستنير، لينظروا إلى الحدث بذاته، ويتعمقوا في دراسته دون ربطه بملابساته، ودون ربطه بما قبله وما بعده من الأحداث، وهذا ما انطبق على تناول الإعلام وتناول المتحدثين فيه من علماء السلاطين ومن نسج على منوالهم لحادثة الهجرة، فنظروا إلى جزئياتها، ودلالات تلك الجزئيات، دون النظر إلى الحدث الكبير وعلاقته بما قبله وعلاقته بما بعده من الأحداث، وقد نتج عن ذلك أن أفقدوا ذلك الحدث قيمته السياسية، وقيمته التشريعية.
إن الناظرَ في حدث الهجرة نظرة مستنيرة يتبيّن له تعلّقُ الهجرة بما سبقها، وهو حدث بيعة العقبة الثانية، فقد بايع أهلُ القوةِ والمنعة من الأوس والخزرج رسولَ الله ﷺ على أن ينصروه لإقامة دولة الإسلام الأولى، والمدقّق في السيرة النبوية تتجلّى له هذه الحقيقة، ولننظر إلى قول العباس بن عبادة الأنصاري، مؤكداً البيعة في أعناق الأنصار: "يا معشر الخزرج؛ هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهَكَتْ أموالَكُمْ مصيبةٌ، وأشرافَكم قَتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خزي في الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكةِ الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير في الدنيا والآخرة. فأجاب الأنصار: نأخذه على مصيبةِ الأموال وقتل الأشراف، ابسط يدك يا رسول الله لنبايعك فبسط يده فبايعوه"، ولقد علمت قريشٌ في صباح اليوم التالي بأمر البيعة، وأرسلت تسأل الحجيج من يثرب عنها، فلم يجب المسلمون منهم، وأجاب من كان منهم مشركاً بأنه لم يحصل شيءٌ من ذلك، وحلفوا لهم الأيمانَ، فظفرت قريشٌ بسعد بن عبادة فأخذوه وأوثقوه وعادوا به إلى مكة يضربونه ليجيبهم عن أمر البيعة فلم يفعل، ولم يُخلصه من أيديهم إلا مطعم بن عدي الذي أجاره.
ومن تلك اللحظة، بدأت قريشٌ تتشاور وتتآمر على رسول الله ﷺ، حتى اتفقوا على قتله لمنعه من الهجرة إلى يثرب والاستقواء بأهلها عليهم، ومن تلك اللحظة أذن الرسولُ ﷺ للصحابة بالهجرة إلى المدينة استعداداً لإقامة الدولة الإسلامية الأولى.
وبمجرد انتهاء حدث الهجرة، وما أنْ حَطَّتْ قدما رسول الله ﷺ أرض المدينةِ حتى شَرَع في تأسيس قواعد الدولة الجديدة بحسب ما يقتضيه الوحي من الله عز وجل، فبنى المسجد ليكون مَقرّاً للدولة، وكتب الصحيفة التي كانت دستوراً لتلك الدولة، يحدّد الحقوق والواجبات، وينظّم العلاقات، وأخذت تتنزّلُ الأحكامُ الشرعيةُ العملية في تنظيم العلاقات، وإيقاع العقوبات الشرعية على المخالفين؛ في دولة يترأسُّها رسول الله ﷺ، فكان ﷺ رسولاً ورئيس دولة، يتنزلُ عليه الوحي فيبلغه بوصفه رسولاً، ويطبقه عملياً بوصفه رئيساً للدولة، وشُرِعت أحكامُ الجهاد، الطريقةِ العمليةِ الشرعية لحمل الإسلام إلى الناس كافة، فأخذ رسول الله ﷺ يعقدُ الرايات ويبعث السرايا إشعاراً للآخرين بالكيانِ السياسيّ الجديد في المدينة المنورة، وإثباتاً لقوة هذه الدولة وإعلاناً لهيبتها.
صحيح أن حدث الهجرة تكوَّنَ من جملةِ أحداث، تضمّنت معجزاتٍ من الله سبحانه وتعالى لرسوله ﷺ، تستحق الوقوف عندها لنستشعر عظمة الله عز وجل، وندركَ مكانةَ رسول الله ﷺ، ونعلمَ أنّ النصرَ من عند الله وحده يؤتيه رسلَهُ، والمؤمنين الصادقين المخلصين الصابرين المتوكلين على الله ﴿إنّا لننصرُ رسلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقومُ الأشهاد﴾ [سورة غافر: 51]، ولكنها بوصفها حدثاً واحداً كبيراً لم يكن حدثاً منفصلاً عن سياقه السياسي والتاريخي، فلقد كانت مرحلة انتقالية بين بيعة العقبة الثانية، بيعة النصرة، وبين إقامة الدولة الإسلامية الأولى، وهي المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة الإسلامية، مرحلة طلب النصرة وإقامة الدولة واستلام الحكم، هكذا كانت الهجرة.
فالهجرة لم تكن هروباً من أذى قريش، فما كان لنبيّ أن يهرب من أذى قومه، ولا كان لمحمدٍ ﷺ - وهو من هو عند الله تعالى - أن يفعَلَها ويهرب من أذى قومه ويتوقّف عن تبليغهم رسالةَ ربه، لكنها الرسالةُ التي أنزلت عليه ليبلغها بالطريقة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، فالإسلام مبدأ يضمّ بين دفتيه فكرةً وطريقةً، فكانت البيعةُ والهجرةُ وإقامةُ الدولة طريقةَ الإسلام لإيجاد مبدأ الإسلام في واقع الحياة، ولم تكن هروباً من الأذى، وإلا فلقد أذن رسولُ الله ﷺ بالهجرة إلى الحبشة، ولو كان يريد تجنبَ الأذى، وأراد التفرغَ لعبادة ربه لهاجر معهم إليها، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلمُ عندَه أحدٌ، نعم؛ ما كان لحبيبنا محمد ﷺ أن تمنعه بعض أشواك في طريق دعوته من مواصلة دعوته، وما كانت تلك الأشواك لتجبره على ترك قومه والفرار من أذاهم، ولكنه كما قال ﷺ في صلح الحديبية: «أنا عبدُ اللهِ ورسولُهُ لن أخالفَ أمرَهُ ولن يُضيّعَني» فالهجرةُ مرحلة انتقالية بين بيعة العقبة الثانية وبين إقامة دولة الإسلام الأولى في المدينة، لتكون بداية عصر جديدٍ لرسالة الإسلام يمتدّ قروناً من الزمان.
إن على المسلمين اليوم أن يعيدوا للهجرة معناها، فيهبّ المسلمون يحملون دعوة الإسلام مع حزب التحرير، وينفضوا الدنيا عن كواهلهم، ويهبّ أهل القوة والمنعة لنصرة حزب التحرير ودعوته، فيبايعوه على إقامة دولة الإسلام الثانية، دولة الخلافة على منهاج النبوة، وحتى يعيد المسلمون للهجرة مبتغاها فعليهم أن يجعلوا قضية الحكم بالإسلام قضيتهم المصيرية، وأن يجعلوا إعادة الخلافة الثانية على منهاج النبوة همّهم الأكبر، فيكونَ رضوان الله سبحانه وتعالى غايةَ الغاياتِ عندهم، بهذا يتحقق للهجرة معناها ومبتغاها في نفوس المسلمين.
رأيك في الموضوع