ثالثا: الفقر
يلخص الإسلام نظرته إلى الفقر في هذه المقولة: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". وعلى مدى سنوات نزول الوحي، أكد الإسلام رفضه القاطع للفقر والجوع. ولله در القائل: "عجبت لمن لم لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهراً سيفه". ما يدل على أهمية موقف الإسلام الرافض للفقر والجوع. ويؤكده قول رسول الله e: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»؛ لاحظ كيف ربط رسول الله e بين رفض الفقر وبين الإيمان والعقيدة. فلم يجعل المفهوم مجرد قاعدة إدارية تطالب بتوفير الغذاء للفقراء، ولكنه عليه الصلاة والسلام، استند إلى الأساس الفكري للعقيدة الذي بناه، لبنة لبنة، على مدى ثلاثة عشر عاماً.
أما بالنسبة للمبدأ الرأسمالي، فإن استقرار المجتمع اقتصادياً يقاس بمدى النمو الاقتصادي؛ وعلامة الاقتصاد السليم عندهم هي زيادة الناتج المحلي الإجمالي. وتعلو أصوات الإنذار في المجتمع الرأسمالي إذا تباطأَ النمو الاقتصادي، أو توقف لفترة طويلة من الزمن. بينما في الإسلام تدق أجراس الخطر وتعلو أصوات الإنذار إذا استمر وجود الجوع، فالإسلام لا يسمح للمجتمع أن يرتاح ما دام هناك إنسان جائع، رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً.
ويشير القرآن الكريم إلى وجود فئتين من الفقر بين الناس. الفئة الأولى هي فئة المساكين. والمسكين هو الذي لا يملك قوت يومه له ولمن يعولهم. أما الفقير فهو من لديه دخل، لكن هذا الدخل لا يكفي نفقاته اليومية العادية مثل المأوى، والصحة، والتعليم، ووسائل النقل، وما شابه ذلك. وبين الإسلام كذلك أن هناك فئات أخرى من الناس قد يكونون في حاجة للمال، وإن كانت حاجتهم مؤقتة. وقد تلقى إطعام المسكين اهتماماً كبيراً في القرآن الكريم، فالمريض الذي يفطر في شهر رمضان ولا يستطيع القضاء يجعل الإسلام كفارة ذلك إطعام المساكين عن الأيام التي أفطرها. وعندما يرتكب المسلم حراماً، يأمره الإسلام بإطعام الجياع والفقراء للكفارة عن هذه الانتهاكات. وعندما يفطر المسلم في رمضان بدون عذرٍ شرعي، عليه التكفير عن هذا الذنب بصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً عن كل يوم أفطر فيه. وإذا أقسم المسلم بالله تعالى ولم يبر بقسمه، عليه أن يُكَفِّر عن هذا الذنب بإطعام عشرة مساكين. فهذه الفروض التي يأمر بها الإسلام تُظهر مدى أهمية محاربة الجوع في المجتمع وأن هذا هو الهدف من فرضها بالمقام الأول. فالإسلام يبين بوضوح أن الجوع يجب أن يعالج بأي وسيلة. وفي الوقت نفسه، يعترف أنه في المجتمعات المعقدة، يتفاوت الناس في مقدراتهم وإمكانياتهم، ومع كل التحركات بين الحرب والسلم، والتغييرات الاقتصادية بين ازدهار وانكماش، فمن الممكن أن يتأخر بعض الناس ويصبحوا غير قادرين على تحمل نفقات احتياجاتهم الأساسية. فلذلك أراد الإسلام أن يصبح الاهتمام بالمساكين والفقراء عند المسلمين جزءاً من الممارسات اليومية. وليعطي قضية القضاء على الجوع اهتمامًا أكبر، قرر الإسلام للفقراء والمساكين حقاً معلوماً في الثروة على الأثرياء بعبارة أخرى، فإن المال الذي يجب أن يدفع للفقراء من قبل الأغنياء ليس شكلا من أشكال الضرائب؛ بل هو واجبٌ على الأغنياء وحقٌ للفقراء، أمر به الله سبحانه وتعالى ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، وقد مدح القرآن الكريم الذين ينفقون بسخاء من أجل إطعام المحتاجين والجياع وإعالتهم. ورفع عالياً قدر أولئك الذين يقدِّمون الطعام، على الرغم من حبهم له، يقدمونه إلى المسكين، واليتيم، والأسير. ويفعلون ذلك وهم لا يرجون أيَّ أجر في الدنيا، بل يبتغون بذلك رضوان الله تعالى فقط.
وبعد إرساء هذه القواعد والمفاهيم عمد الإسلام إلى مجموعة من القوانين والأحكام ضمن بها إيصال المال إلى الفقراء والمحتاجين ولتوزيع الثروة بشكل يضمن وصول المال إلى مستحقيه وعدم تداوله بين الأغنياء من الناس فقط. ومن هذه الأحكام:
- أحكام النفقة والتي بينت حق كل شخص على من تجب عليه نفقته، كنفقة الأبناء على الآباء، والوالدين على الأولاد حين يكبرون، والزوجة على الزوج وهكذا.
- أحكام الميراث التي تضمن لكل وارث نصيبه من الإرث حسب قوانين واضحة محددة.
- أحكام الملكية العامة التي تنفَق وارداتها على حاجات الناس كالتعليم والصحة والمرافق العامة.
- أحكام ملكية الدولة التي يتم من خلالها إعطاء الفقراء مالاً ليرفعوا صفة الفقر عنهم.
- أحكام الشركات خاصة المضاربة التي يتمكن بها من ليس لديه مال أن يصبح مالكا لشركة إنتاجية يمولها مَنْ عنده مال.
- أحكام تحريم إجارة الأرض للزراعة بل "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه".
- أحكام تحريم الكنز للمال؛ ما يفرض استثمار المال في مشاريع تعود بالعمل على من لا يجد عملا.
- أحكام تحريم الربا ما يجعل المال متوافرا في السوق في دورة الإنتاج.
- أحكام الزكاة والتي تصل أموالها إلى كثير ممن يحتاجون المال من الأصناف الثمانية.
- أحكام الضرائب التي تفرض في أوقات خاصة على الأغنياء من المسلمين لسد حاجة الجوع والفقر الطارئ في المجتمع.
وختاما نذكر أن أول عمل قام به رسول الله e من الإيخاء بين المهاجرين والأنصار كان أحد أهدافه علاج حالة الفقر الناشئة عند المهاجرين جراء هجرتهم وتركهم أموالهم في مكة.
رأيك في الموضوع