لا يزال العالم يلدغ من جحر السوق المالي ونظام الأسهم بدل المرتين مرات ومرات. ففي الأمس انهار سوق المال الصيني مدمرا ثروات ملايين من البشر وإن كانت كلها وهمية في أصلها، ومن قبلها أسواق المال في أمريكا وأوروبا، ومن قبلها أسواق نمور آسيا، وفي كل مرة يقولون هذه أسوأ كارثة، حتى يأتي الانهيار التالي فيقولون بل هذه كارثة أسوأ!! والناظر إلى سوق المال، وبالأخص سوق الأسهم، يجد أن سر انهياره المتتالي كامن في تركيبته ونظامه منذ أن نشأ هذا النظام. فقد نشأ ابتداء كطريقة لجمع أموال هائلة لتمويل المشاريع الضخمة. وكان النظام الاقتصادي في العالم كله حتى الرأسمالي يضع قيودا على كيفية إنشاء الشركات وجمع الأموال وتمويل المشاريع. وكان القانون المستند إلى نظرية الالتزام في التشريع الغربي يفرض أن يحتوي كل عقد ينشأ بموجبه شكل من أشكال الاستثمار والتشارك على طرفين أحدهما دائن والآخر مدين، يلتزم الدائن بموجبه بالتمويل ويلتزم المدين بتقديم خدمة ما أو سداد الدين. إلا أن التطور الصناعي الذي بدأ نهاية القرن التاسع عشر وازداد حجما ونوعا في القرن العشرين، وما رافقه من استعمار وفتح لأسواق ضخمة خارج حدود الدولة القطرية، أدى إلى ظهور الحاجة إلى التمويل الكبير من جهة وإشراك أكبر عدد من الناس في المشاركة في المشاريع الاقتصادية ذات الطابع الاستعماري حتى ينتفع أكبر قدر من الناس من الاستعمار وتوابعه. وبدلا من البحث عن كيفية لحل هذه المشكلة والاجتهاد في حلها ضمن أساسيات النظام، عمد الرأسماليون إلى الخروج عن أساس النظرية وضرب قواعد نظرية الالتزام عرض الحائط، فكان مثلهم كمثل العرب في الجاهلية؛ لما احتاجوا إلى طعام أكلوا ربهم الذي صنعوه من تمر!!
فقام نفر من كبار الرأسماليين ومشرعيهم في أمريكا ينادون بضرورة إنشاء عقد منفرد سموه عقد الإرادة الحرة أو الإرادة المنفردة والذي يلغي ضرورة وجود دائن ومدين في العقد الواحد، ويكفي أن يلزم الشخص نفسه بشيء أو يدفع الشخص بماله دون أن يحتاج إلى طرف آخر. وبذلك ضمنوا إمكانية نشوء شكل من المشاركة يصبح فيه المرء شريكا لغيره بمطلق إرادته هو ودون الحاجة لأن ينشأ عقد بين طرفين أو أكثر. ودخل تشريع الإرادة المنفردة قوانين الدول الخاضعة للنظام الرأسمالي والدول التي تم استعمارها من قبل هؤلاء.
وهكذا نشأ نظام جديد مكن ملايين الأفراد أن يصبحوا شركاء في شركة دون أن ينشأ بينهم أي نوع من العقد أو الترابط، وأنشئت من أجل ذلك الأسواق المالية التي يتم فيها بيع الحصص (الأسهم) أو شراؤها من قبل أفراد. ومن هنا كان نظام الأسهم هو (كعب أخيل!) في النظام المالي، فهو من جهة أظهر عورة النظام وعدم مقدرته على الاجتهاد وإيجاد الحلول دون الخروج على أصوله وقواعده ما يدل على عجز النظام ومحدوديته؛ فهو نظام بشري قائم على عقل الإنسان المحدود. ومن جهة أخرى أوجد أرضية لنشوء مال وهمي لا وجود له في الواقع. فمثلا لما طرحت شركة أمازون أسهمها للبيع في السوق المالي لأول مرة تم شراء السهم الواحد بقيمة 400 دولار علما بأن الشركة لم تكن تملك أي منتج، بل كانت تقدم خدمات الوساطة بين ناشري الكتب والمستهلكين، ولم تكن الشركة قد حققت أي أرباح. فأصبحت قيمة الشركة خلال فترة وجيزة تتجاوز 50 مليار دولار، وحين هبطت قيمة أسهمها إلى حوالي 50 دولاراً أصبحت قيمة الشركة حوالي 7 مليارات دون أن يتغير على واقع الشركة أي شيء لا في حجم الأعمال ولا في عدد الزبائن ولا في كمية الكتب والبضائع المنقولة من خلال أمازون. وقس على ذلك آلاف الشركات المساهمة التي تتضخم وتتقلص كما بالون الهواء بين عشية وضحاها. ونشوء مثل هذا النظام له أضرار بالغة على الاقتصاد وعلى الناس، فعجلة الإنتاج والتقدم المبني على الاكتشافات والاختراع تتراجع بشكل ملموس؛ حيث إن المال يمكن أن يتضاعف أضعافا مضاعفة دون الحاجة إلى إنتاج رغيف خبز أو صاروخ أو حاسوب. كذلك الأفراد الذين يعيشون طرازا معينا من العيش بناء على ثروة وهمية قد تتبدد بسبب دعاية أو وشاية أو مضاربة أو غيرها ويصبح الاستمرار في العيش على النمط السابق مستحيلا ما يوجد أرضية الانتحار والجريمة وانتشار المخدرات وغيرها من شظف العيش وضنكه.
وغني عن القول أن الإسلام وهو الدين الذي أنزله الله تعالى وشرعه قد حفظ المسلمين ومجتمعهم واقتصادهم من هذا البلاء الماحق. فالإسلام فرض وجود عقد شرعي فيه إيجاب وقبول أي فيه طرفان متعاقدان على وجوب العقد والقبول به. فلا يقبل الإسلام بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة أو سبب أن تنشأ شركة أو تجارة أو بيع بالإرادة المنفردة فقط، فلا بد من طرفين ولا بد من إيجاب وقبول. فالإرادة المنفردة الحرة لا ينشأ عنها وجود شركة أو كيان مالي أبدًا. والإسلام دين رباني ليس كالرأسمالية يأكل نفسه أو ينقض بعضه إذا حزبت به قضية جديدة أو حاجة للتوسع. بل الإسلام فيه قابلية لإيجاد حل لأي قضية دون الخروج على أصوله وقواعده. فالحاجة لتمويل المشاريع الكبيرة إن كانت من المشاريع المتعلقة بالملكية العامة كالبترول والغاز والتعدين فإن أموال الملكية العامة نفسها وهي ضخمة كفيلة بتمويل أي من هذه المشاريع دون الحاجة إلى مساهمين وشركاء سواء بإرادة حرة أو بالتزام أو بإيجاب وقبول. أما المشاريع المتعلقة بالملكية الخاصة كصناعة السيارات والدراجات والحواسيب وبرمجياتها فإن شركة المضاربة التي يشارك بها صاحب المال بماله ويدفعه لمن يقوم على إنشاء المشروع وإدارته كفيلة بإيجاد التمويل اللازم، خاصة إذا علم أن المضارب قد يكون فردا أو أكثر، وشريك الجهد قد يكون فردا أو أكثر. ولكن العبرة في التزام كل طرف واهتمامه بالشركة من حيث وجودها وإنتاجها وربحها وتحمل الجميع ما يترتب على الشركة من ربح وخسارة. ولا يستطيع أي طرف في الشركة الإسلامية أن يبيع حصته في الشركة هكذا دون ترتيب من جميع الشركاء على الوجه الشرعي المناسب، ما يحول دون المضاربات القاتلة، والتي تمكن طرفاً معيناً أن يدخل الشركة بماله ثم يبيع حصصه أو أسهمه بأسعار بخسة ما يؤدي إلى خسارة الشركة قيمتها وهبوط سعرها وانهيارها كما حصل مع انهيار سوق الأسهم في دول نمور آسيا في ثمانينات القرن الماضي. فالإسلام حرم هذا العمل، حيث اعتبر الشركة وحدة واحدة لا تتجزأ، وبالتالي لا يصح أن يخرج أي شريك من الشركة بمجرد رغبته وبمطلق إرادته. بل لا بد لجميع الشركاء أن يتفقوا على حل الشركة أولا وإعطاء من يريد أن يخرج من الشركة حصته من الشركة سواء بخسارة أو ربح، ثم يعود الشركاء إن شاءوا لإعادة بناء الشركة. وبهذا لا يمكن أن يتسبب خروج شريك من الشركة بخسارتها أو خسارة من بقي من المشاركين.
من هنا فإن العمليات المالية التي تجري في الأسواق المالية من شراء وبيع للأسهم وتقييم وإعادة تقييم للأسهم كلها هي عمليات لا يقرها الإسلام ولا يرضى عنها، لأنها تفتقر إلى وجود العقد الشرعي الذي يقتضي وجود طرفين وأن ينشأ بينهما إيجاب وقبول من أجل أن تنعقد الشركة وأن تصح العملية المالية. وبالتالي فإن شراء الأسهم وبيعها في الأسواق المالية هي عمليات محرمة لا تصح. والذين قالوا بجواز هذه المعاملات قد بنوا رأيهم على أسس غير صحيحة.
فمن قال بأن الأسهم هي عملية شراء ينطبق عليها أحكام البيع والشراء فإن هذا القول باطل لأن البيع يحتاج إلى سلعة يتم بيعها وشراؤها وتكون عيناً قابلا للتملك والانتفاع به. أما السهم فهو ليس عينا أو بضاعة يتم شراؤها. فمثلا من يشتري سهما في شركة مصفاة البترول التي تبيع مشتقات النفط فإنه بشرائه السهم لا يتملك غازا ولا سولارا ولا كازا ولا غيره. ولو أنه امتلك ألف سهم من أسهم النفط واعتراه برد قارس فإنه لا يتمكن أن يذهب إلى السوق ليجلب شيئا من النفط يتدفأ به، وقد يفتك به البرد القارس وأسهمه في شركات النفط لا تغني عنه. وكذلك من يشتري أسهم شركة مايكروسوفت فإنه لا يستطيع أن يبادلها كلها أو بعضها ببرنامج واحد من مايكروسوفت وهكذا. ذلك أن السهم ليس بضاعة تتملك أو ينتفع بها فلا ينطبق عليها واقع البيع. وعليه فإن من قالوا أن حل أو حرمة الأسهم تتبع البضاعة التي تتعامل بها الشركة فإن كانت حلالاً كان السهم حلالا وإلا فهو حرام. هذا القول باطل لما ذكرنا أن السهم ليس ممثلا لبضاعة تباع وتشترى.
ومن قال إن السهم هو جزء من شركة ولكنه يستوفي الإيجاب والقبول فهو عقد شرعي، لأن مالك السهم إنما يشتريه في السوق المالي بعد أن أقرت الشركة بيع أسهمها في السوق وبالتالي فإن العملية كلها فيها إيجاب وقبول. مثل هذا القول لا يرقى إلى الفهم الصحيح لأن أصحاب فكرة المساهمة والشركات المساهمة لم يدّعوا هذا القول بل إنهم اخترعوا فكرة الإرادة المنفردة وشرعوا لها القوانين للخروج من دائرة الإيجاب والقبول أو الالتزام كما هي نظريتهم. والذي يجري في السوق المالي هو طرح لعدد الأسهم التي يمكن تملكها وقيمة كل سهم في كل لحظة. وليس للشركاء دخل في ذلك مطلقا. فلا يستطيع أكبر مساهمي البنك العربي مثلا أن يمنع بيع أسهم من أحد المساهمين ولا منع أي طرف يريد شراء أسهم، إلا من خلال قانون يتم استصداره. كأن يُستصدر قانون لمنع شراء أكثر من نسبة معينة من الأسهم من قبل طرف واحد وهكذا.
ومن قال إن الأصل في الأفعال كما هي الأشياء الإباحة، فالعمليات المالية المتعلقة بالأسهم هي عمليات حديثة ولم يجر ذكرها أو منعها أو تحريمها وقت التشريع أي زمن رسول الله r، وبالتالي تبقى على إباحتها. مثل هذا القول يخالف أهم قاعدة من قواعد الشرع؛ وهي أن الحلال والحرام سواء أكانت أشياء أم أفعالا، فإنها كلها تحتاج إلى نص ينص على حلها أو حرمتها أو إيجابها أو كراهيتها. والفرق أن الأشياء جاءت نصوص عامة أحلتها جميعا وجاءت نصوص استثنت بعض الأشياء وحرمتها. أما الأفعال فقد جاءت نصوص تبين نوع الفعل المطلوب تجاهها كفرض الصلاة وحرمة الزنا وفرض الجهاد على الكفاية وحرمة التولي يوم الزحف وهكذا. على أن الإسلام قد جاء بتشريع للشركات وبين أحكامها وفصلها ولم يتركها هكذا. فلا يقال أن الشركة المساهمة وبيع الأسهم ليس له حكم معين فيكون مباحا. بل إن الإسلام قد جاء بتشريع محدد للشركات وبين أحكامها وأنواعها وشروطها وما ينعقد منها وما لا ينعقد.
وإن كان المسلمون قد خدعوا ردحا من الزمن بالأسهم وشركاتها وعمّيت عليهم إشكالاتها إلا أنه مع ظهور فساد النظام القائم عليها واستشراء مفاسدها وكثرة الكوارث المالية والاقتصادية المتعلقة بها، وانهيار اقتصاديات دول بسببها، وخسارة أموال حقيقية في أسواق وهمية مضللة، وتحطيم أسر بأكملها وانتحار آلاف من المستثمرين الخاسرين فيها، مع ظهور كل هذا، أصبح لزاما على المسلمين أن يثوبوا لدينهم وشريعتهم ونظامه المالي ليجدوا فيه الحماية التامة لأموالهم والوضوح التام لمعاملاتهم والحفاظ على ممتلكاتهم وثرواتهم. بل وأكثر من ذلك - أصبح لدى المسلمين مادة خصبة وثمينة لتحدي الكفر ونظامه في أعز شيء عندهم، وعرض الإسلام حلا وبديلا عن كفرهم وتعاسة اقتصادهم وهشاشة نظامهم. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
رأيك في الموضوع