في ظل أزمة كورونا خرج أحد الأطباء الفرنسيين في إحدى القنوات الإخبارية بتصريح مليء بالاحتقار والدونية للشعوب الأفريقية حيث قال: "ألا ينبغي أن نقوم بدراسة هذا الفيروس في أفريقيا حيث لا توجد أقنعة ولا علاج ولا عناية مركزة؟ كما فعلنا في بعض الدراسات حول الإيدز".
هذه هي النظرة الاستعمارية المقيتة التي استخدمتها فرنسا في استعمارها للقارة الأفريقية، وجعلت من الشعوب عبيداً أو فئران تجارب. فمع نشوء الإمبراطورية الفرنسية في أفريقيا في منتصف القرن السادس عشر، وامتدادها لتشمل حوالي نصف القارة السمراء على مدى عقود ثلاث، استطاعت من خلالها ربط الكثير من الدول الأفريقية بها لتنهب خيراتها وتستعبد شعوبها وتنشر لغتها وثقافتها فيها بالحديد والنار، ولا ترى في هذه الشعوب إلا عبيداً غير قادرين على إدارة حياتهم ويحتاجون للعرق الأبيض لينظم لهم شؤونها.
هذا الاستعمار الدموي الوحشي خلد لفرنسا في ذاكرة الشعوب الأفريقية فصولاً سوداء من تجارة الرقيق، والمجازر البشرية، ونهب الخيرات، وتدمير المدن وحرقها. ولقد ساهمت الأذرع الفرنسية المنتشرة في القارة من القواعد العسكرية والبعثات الدبلوماسية والشركات العاملة في اغتيال أو الإطاحة بأكثر من 22 رئيساً أو رئيس وزراء أفريقياً لضمان مصالحها، إلا أنه وبعد الحرب العالمية الثانية وخروج أمريكا كمستعمر قوي جديد للعالم - حيث كان التنافس سابقاً ما بين فرنسا وبريطانيا على مناطق النفوذ - وتطلعها خصوصا مع امتلاكها للقوة المادية والاقتصاد القوي على خلاف الدول الأوروبية، بدأت الولاءات والعمالات تتجه نحو المستعمر الجديد إما بانقلابات عسكرية، أو تحركات تمرد مسلح تدعمها أمريكا لبسط نفوذها على الدول ومنها الدول الأفريقية.
فمنذ ستينات القرن الماضي اضطرت فرنسا لإعطاء الاستقلال الصوري لمستعمراتها، تخفيفاً للضغوط التي شكلتها أمريكا عليها وحثها الشعوب على المطالبة باستقلالها لتحل محل المستعمر القديم، إلا أن فرنسا استطاعت ربط الدول المستقلة باتفاقيات أمنية واقتصادية وثقافية تبقيها رهن إشارتها، مثل المنظمة الفرنكوفونية للناطقين بالفرنسية، والفرنك الأفريقي، وإجبار هذه الدول على وضع 85٪ من دخلها تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي وغيرها...
ولكن الملاحظ أنه ومنذ تسعينات القرن الماضي ونتيجة لفشل المستعمر الفرنسي للتصدي لحركات التمرد المسلحة في كثير من الدول الأفريقية، وتدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والإنسانية فيها، واتخاذ أمريكا خطوات جادة في مد سيطرتها وإزاحة فرنسا من مستعمراتها لتنفرد هي في نهب خيراتها من المعادن النفيسة والثمينة، وإيقاف تطلعاتها لتكون قوة ذات شأن تزاحم أمريكا في قيادتها للعالم، خصوصاً بعد المجاهرة الفرنسية بضرورة إيجاد قوة أوروبية مستقلة عن أمريكا وإنهاء الارتباط بحلف شمال الأطلسي، وتعزيز الترابط الاقتصادي الأوروبي من خلال العملة الموحدة، وغيرها الكثير، والتي دفعت لتأجيج الصراع بينهما لتكون أرض الصراع العديد من الدول الأفريقية، ولتكون شعوبها وقوداً لهذا الصراع.
فلقد استطاعت أمريكا إزاحة النفوذ الفرنسي في العديد من الدول الأفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو وغيرهما مستغلة السخط الشعبي وتطلعات الشعوب للتحرر، عازفة على أوتار الحريات وحقوق الإنسان وغيرها من الكلمات الجوفاء لتغري بها عديمي البصر والبصيرة من رويبضات قبلوا التبعية لها للسيطرة على البلاد والعباد.
إن الصراع محتدم في عموم أفريقيا بين أمريكا والمستعمرين القدامى بريطانيا وفرنسا، فهي إن لم تحتل البلد مباشرة تعمل لإيجاد نفوذ لها فيه عن طريق العملاء في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها من المجالات الحيوية والمؤثرة في البلد، وهؤلاء من أخطر ما يكون على البلاد، فهم أخطر من جيوش المحتل، لأن المحتل لا يتركز إلا بهم ويتخفى خلفهم ويحقق مصالحه بواسطتهم ويحول دون محاربته متترساً من خلفهم، قال تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.
هذا هو واقع الاستعمار قديماً وحديثاً، فبعد أن كانت فرنسا تتنفس بالرئة الأفريقية كما صرح رئيسها شارل ديغول في خمسينات القرن الماضي، تأتي الفرصة لاستعمار جديد وتتهيأ الساحة للاعبين آخرين كروسيا بغبائها السياسي لتخدم أمريكا في كثير من الدول الأفريقية لعلها تحظى بمنزلة في الموقف الدولي، وكالصين التي تتطلع في مد نفوذ اقتصادي ليخدمها لاحقاً إن أصبحت لديها تطلعات جادة للنفوذ للموقف الدولي، مع أن هذا النفوذ يأتي بموافقة المستعمر القديم لعله يخفف من وطأة الصراع عن هذه المناطق، ناهيك عن الصراع بين الدول الأوروبية نفسها على نهب خيرات البلاد واستعباد الشعوب مصداقاً لقوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾.
إن أصحاب الذمم الرخيصة شراؤهم سهل، وهم مستعدون للتعاون مع هذا المستعمر أو ذاك في سبيل الوصول إلى الحكم وتبوء المناصب ولو على حساب شعوبهم وبلادهم، ولا يعرفون طريقاً للاستقلال عن هذه القوى، فيبحثون دائماً عن سند خارجي يسندهم للوصول إلى السلطة والبقاء فيها. ولا توجد من بينهم عقليات مستقلة في التفكير والإدارة، كما لا توجد الشخصيات المبدئية التي تعرف كيف تدير البلاد وتنهض بها بعيداً عن القوى الخارجية.
إن مصيبة بلاد المسلمين اليوم هي في هؤلاء الحكام العملاء الذين يجعلون الكرسي فوق بلدهم وشعبهم! فالواجب على المسلمين أن يعملوا بصدق وإخلاص لخلع النفوذ الاستعماري من بلادهم بكل أدواته، واستئناف الحياة الإسلامية ومن ثم تعود هذه الأمة كما قال العزيز الحكيم في محكم كتابه الكريم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
والواجب على أهل القوة والمنعة من أبنائنا وإخواننا في الجيوش ملاحظة هذه الفرصة الربانية التي تشغل المستعمرين بعضهم ببعض لينفضوا عن كواهلهم حماية الرويبضات، وليلتفوا حول أمتهم وتطلعاتها في الانعتاق، وليحملوا مشروع الفلاح مع شباب حزب التحرير، ويعطوا النصرة لهذا المشروع بقيادة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة، فينالوا بإذن الله رضا الله في الدنيا والآخرة.
بقلم: د. عبد الله ناصر – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع