إنّ خونة هذه الأيام من الحكام العملاء قد ورثوا الخيانة من أسلافهم الذين سبقوهم كما يتم توريث السلطان والملك سواء بسواء، وورثوا مع رذيلة الخيانة هذه صفة انعدام الإحساس بالكرامة والهيبة، مع الخنوع والاستسلام لأعداء الدين والأمة، وعلى سبيل المثال فخيانة التطبيع مع كيان يهود جارية في هذه الأيام على قدم وساق وجار معها استمرار التبعية والخضوع لمن يتربص بالمسلمين الدوائر.
ففي البحرين على سبيل المثال يستقبل ملكها بكل وقاحة رئيس كيان يهود لا لهدف سوى الإعلان بافتخار عن تلك الوقاحات، وفي الإمارات يتسابق حكامها العملاء على توقيع الاتفاقيات الثنائية والمتعددة بكل صفاقة مع هذا الكيان الغاصب، وفي مصر لا يدع حكامها مناسبة إلا ويضغطون فيها على فصائل المقاومة في قطاع غزة بشدة لمنعها من الرد على عدوان جيش يهود المتكرر على أهل فلسطين، وكأنّه لا وظيفة لمصر في السياسة الخارجية إلا حفظ أمن كيان يهود، وفي المغرب تعقد حكومتها اتفاقاً مع شركة غاز يهودية للتنقيب عن الغاز في المياه المغربية بعد توقيع الاتفاقيات العسكرية الدفاعية مع جيش كيان يهود، وفي الأردن يوقع حكامه العملاء مع يهود على اتفاقيات الماء والكهرباء...
وفي لبنان يتفق حكامه بمن فيهم زعماء حزب إيران اللبناني على ترسيم الحدود البحرية مع كيان يهود، فيقرون ويعترفون بذلك الترسيم بأنّ فلسطين أصبحت ليهود الغاصبين، وفي سوريا يستسلم نظام الطاغية الجبان بشار الأسد الذي يستأسد على شعبه لنهج كيان يهود الذي يستمر في قصف مواقعه العسكرية من دون أي حراك، وكأنه قضاء لا رادّ له، وفي السودان يتواصل حكامه المنبطحون لأمريكا وبريطانيا بديمومة العمل السياسي والعسكري مع كيان يهود، ويتعاونون معه أمنياً لملاحقة من يسمونهم بالإرهابيين.
والحقيقة إن جريمة التطبيع المتصاعدة هذه مع كيان يهود لم تأتِ من فراغ، فهي ثمرة جهود سياسية ضخمة بدأها الحكام العملاء في الماضي مع كيان يهود بالسر، وآن الأوان لتتحول إلى العلن، وهذه العلاقات الخيانية بين حكام العرب الخونة وبين كيان يهود هي علاقات تاريخية طويلة وليست وليدة هذه الأيام، لكن ما كان يميزها من قبل هو خاصية السرية والكتمان، وأما هذه الأيام فأصبحت مكشوفةً مفضوحة.
ومن هذه الاتصالات الخيانية الخطيرة التي تمّ الكشف عنها حديثاً بعد رفع السرية عنها ما قام به فوزي قاوقجي رئيس ما يسمى بجيش الإنقاذ من إنشاء علاقات خطيرة مع زعماء العصابات الصهيونية سنة 1948 والتي تسبّبت بتدمير قوة المجاهدين في فلسطين وتسليم المناطق الفلسطينية لعصابات الهجاناة الصهيونية من دون قتال، فقد كشفت الوثائق البريطانية والصهيونية التي تم رفع الحظر عنها أن فوزي قاوقجي قد اجتمع بتاريخ 01/04/1948 في قرية عين شمس بشكل سري مع يهوشع بالمون أحد قادة الهاجاناة وأول رئيس للموساد في كيان يهود بعد تأسيسه، وزوده بجميع التفاصيل الاستخبارية عن الوضع العسكري للمقاتلين الفلسطينيين، وأمده بالمعلومات الخاصة بكل الجبهات، خاصة تلك الجبهات التي تعاني من نقص بالسلاح والعتاد، ليسهل معرفتها والقضاء عليها، وللتأكيد على صدق تلك المعلومات دعمها قاوقجي بالبرقيات التي كان يرسلها عبد القادر الحسيني له طالبا منه العتاد، ورصدت الاستخبارات الصهيونية بالفعل تلك المكالمة والبرقيات، وتأكّدت من التزام القاوقجي بالاتفاق المبرم بين الرجلين، وتأكدت أيضاً أنّ الحسيني ورجاله يعانون من مشكلة نفاد الذخائر.
كما كشف قاوقجي في ذلك الاجتماع الخطة العسكرية التي أعدّها المجاهدون لتحرير قرية القسطل ذات الموقع الاستراتيجي، والقضاء على الجيوب الصهيونية في مدينة القدس، وهو ما مكن العصابات الصهيونية من كشف مكامن ضعف المجاهدين، ومنح العصابات الصهيونية الفرصة الذهبية للإيقاع بهم في كمائن قاتلة.
ومعلوم أنه ثابت تاريخياً أنّ عبد القادر الحسيني كان قد طلب من قاوقجي أنْ يرسل له قوات مساندة وسلاحاً وعتاداً فاعتذر قاوقجي وادّعى بأنه لا يملك السلاح مع أنه كانت لديه أسلحة وذخائر مُكدّسة في المخازن.
والغريب فيما ورد في الاجتماع أنّ قاوقجي قد طلب من بالمون القضاء على الحسيني فقال له: "عليكم أن تُعلموهم درساً لا ينسونه"، ووعده بأنّه سيمنع تقديم أية مساعدة عسكرية للفلسطينيين بالرغم من وجود السلاح والعتاد الكثير في مخازنه، كما تعهد له بأنْ تنسحب قواته من بعض المواقع التي يسيطر عليها لتسليمها ليهود من دون قتال.
وتذكر الوثائق أنّ قاوقجي طلب من بالمون لقاء هذه الخدمات أنْ يمنحه نصرا تمثيلياً واحداً يستعين به لإكمال تنفيذ مخططاته، فرفض بالمون طلبه هذا وردّ عليه قائلاً: "نحن اليهود لن نعطيكم شيئاً".
وبعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع الخطير شنّت القوات الصهيونية هجوماً كبيراً في 04/04/1948 فدمّرت مقر قيادة الحسيني في رام الله، ووقعت معركة القسطل، وسقط الحسيني شهيداً، ودخلت القوات الصهيونية مدينة القدس.
وقد وردت هذه المعلومات في كتاب "حرب من أجل فلسطين" صفحة 86، وهو من تأليف يوجين روجان وآفي شلايم نقلاً عن وثائق بريطانية وصهيونية نُزعت عنها السرية من جامعة كامبردج في المملكة المتحدة، كما كانت قد وردت معلومات من قبل عن لقاء قاوقجي مع بالمون هذا في كتاب آخر بعنوان "يا قدس" لدومنيك لابيد ولاري كولنز.
رأيك في الموضوع