ينتظر المسلمون رمضان بشوق ليصوموه إيمانا واحتسابا ولا يريدون ذهابه. فله في نفوسهم من المحبة ما له، لا تضاهيها عبادة أخرى، حتى تارك الصلاة والغافل عن تطبيق كثير من أحكام الله والمطبق لأحكام الكفر من الحكام الذين يدّعون الإسلام يصومونه أو يتظاهرون بصيامه! فلم يستطع الكفار أن ينزعوا من المسلمين محبة رمضان، فعمدوا إلى تفريغه من معانيه ومحتواه؛ فجعلوا لياليه ليالي سمر ومرح وتسلية ومشاهدة مسلسلات وكثير منها الساقطة والماجنة، وجعلوه شهر إعداد الوجبات الفاخرة والتسابق على تناول مختلف أنواع الأطعمة وملء البطون، وجعلوا نهاره ساعات نوم وسبات. فذلك من خطط التمييع للصيام وغيره من العبادات والأحكام والتي يحوكها الكافر المستعمر ويعمل على تنفيذها بواسطة أعوانه وأوليائه، وخاصة الأنظمة التي أقامها في البلاد الإسلامية ووسائل الإعلام التابعة له ولها. فوقع البعض في المكر الذي تزول منه الجبال.
وهناك من أنجاه الله من مكرهم، فقام وأحيا لياليه بعبادة الله وقراءة القرآن وتدبره والعمل به والعمل على إقامة دولته، فهو شهر القرآن إذ نزل فيه هدى للناس، كيف لا وقد بدأت الدعوة إلى الله فيه، حيث قام داعي الله محمد ﷺ يلبي نداء ربه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ وتصدى له قادة الكفر فجاءهم الهجوم الصاعق بعد هذه الآيات. نرى في كثير من السور المكية مع قصرها هجوما صاعقا على قادة الكفر الذين تصدوا للدعوة، ولهذا معناه ومغزاه، فوجب استهدافهم بعد قول لا إله إلا الله، فهم أس البلاء. وقد أدركوا أنها تستهدفهم، لأن الدولة تقوم على فكرة، فإذا آمن الناس بها فسوف يأبون أن يحكموا بفكرة تخالفها. حارب الكفار الدعوة محاربة ضارية، وعندما عجزوا فكريا بدأوا بالاضطهاد من حبس وقتل وتعذيب وتهجير ومقاطعة وتضليل ونشر للأكاذيب، تماما كما يفعل حكام اليوم الذين لجأوا إلى اضطهاد حملة الدعوة بكافة الصور والأشكال، وزادوا على ذلك بتمييع الأفكار وحرف الناس عن فهمها فهما صحيحا، وجعلوا القرآن فقط لكسب الثواب بقراءته وحفظه، وخرقوا ما يسمى الإسلام المعتدل والوسطي الذي يهادن الكفر ولا يتمايز عنه بل يختلط به ويخدمه. واعتبروا الإسلام الذي نزل على محمد ﷺ وهو الحق تطرفا وتشددا وإرهابا. وما زالوا يبتدعون أساليب شتى لمحاربته، حتى بدأوا بمحاولة تمزيق كيانه كما فعلت فرنسا مؤخرا بأن افترت ما يسمى بالإسلام الفرنسي وجعله موافقا لعقيدة الكفر العلمانية كما فعلوا بنصرانيتهم ويهوديتهم.
إن شهر رمضان كان بداية الدعوة لإقامة دولة الإسلام، فلم يفرض صيامه إلا من بعد أن أقام المسلمون دولته وبدأوا بحمل دعوته إلى الخارج عن طريق الجهاد فيه، في السنة الثانية للهجرة، فكانت وقعة بدر أول انتصار للحق على الباطل، وكثير من الانتصارات والفتوحات وقعت فيه.
لقد غُيّب عن المسلمين هذا الفهم بأن فريضة حمل الدعوة لتأسيس صرح الإسلام ودولته سبقت فريضة الصلاة والصيام والزكاة والحج، فلهذا معناه ومغزاه. فلم يدركوا أهمية حمل الدعوة بسبب التضليل والمغالطة المتعمدة من الكفار المستعمرين والمؤتمرين بأمرهم من العملاء والمأجورين باقتصار الإسلام على العبادات والأخلاق، فيظن المسلم أنه قام بالواجبات وانتهى، بل لا يضيره أن يحمل الدعوة لأفكار تخالف الإسلام من قومية ووطنية وديمقراطية وعلمانية واشتراكية، ويقوم بالعمل السياسي حسبها ويحكم بها وهو يدّعي أنه مسلم ويصلي ويصوم ويتلو القرآن! وأصبح من المستغرب أن يقام بالعمل السياسي على أساس الإسلام واعتبروا الدعوة له تخص العقائد والعبادات والأخلاق. وقام فريق منهم ببدعة خرقاء وهي التفريق بين العمل السياسي والعمل الدعوي في بدعة كلها ضلالة وخبث تخدع البسطاء وترضي الأسياد في دول الاستعمار! فيمارسون السياسة حسب قوانين الكفر بينما يدعون الناس إلى الالتزام بالإسلام!
لقد مضى مئة رمضان والمسلمون لم ينقطعوا عن صيامه، ولكن لم يضرهم أن ينقطعوا عن إقامة حكم الله في الأرض وحمل دعوته إلى العالم! يصومونه في ظل أنظمة كفر متشاكسة تتبع هذا المستعمر أو ذاك، تفرقهم ولا تجمعهم وتطبق قوانينه وسياساته وتحارب الدعوة لتحكيم شرع الله وإقامة دولته، وتحرم العمل السياسي على أساسه، فذلك يخالف قانون الأحزاب الذي يمنعها من العمل على أساس ديني كما أملاه عليهم الأعداء.
لقد مضى مئة رمضان بدون خلافة تقيم فيهم شرع الله وتطبق حدوده وتحمي بيضة المسلمين تنتقم ممن نكّل بهم وأهانهم واعتدى على حرماتهم واستباح ديارهم وهجرهم منها وصادر أراضيهم واستولى على ثرواتهم، تلك الخلافة تستجيب لصرخات المظلومين ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾، فهم الآن يستغيثون ولا مجيب لهم ويستنصرون ولا ناصر لهم.
إن إدراك أهمية الخلافة والعمل لها لهو من أوجب الواجبات وألحّ الضرورات وأولى الأولويات، فيجب التركيز على ذلك أيما تركيز حتى يدرك المسلمون مدى أهميتها والعمل لها، فتصبح قضيتهم المصيرية، بها يحيون ودونها يموتون، بها عزهم وسؤددهم ودونها ذلهم واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، بها تحل كافة القضايا والمشكلات وتحرر البلاد وتؤدى بها كافة الواجبات على وجهها الصحيح.
كفى مرور مئة رمضان بدون خلافة وخليفة يعلن ويهنئ المسلمين بقدومه! وحيّ على العمل لإقامتها وتقديم النفيس والغالي من أجلها. فمرحبا برمضان المئة والواحد وقد قامت على منهاج النبوة والله راعيها.
رأيك في الموضوع