وفي مصر بعدما قام العساكر بانقلاب على الملك التابع لبريطانيا عام 1952 وأسقطوا الملكية وأعلنوا الجمهورية وضعوا دستورا جديدا يوم 3/3/1956م بقيادة عبد الناصر. وهذا الدستور مستمد من الدساتير الغربية، وإن وضعت فيه مادة أن الدين الرسمي للدولة الإسلام ولكنه دستور يفصل بين الدين والدولة في كافة الأنظمة، فهو دستور علماني ضمنا. فجرى تعديله عام 1971 على عهد السادات وكذلك جرت تعديلات على عهد حسني مبارك عامي 2005 و 2007 ولكن الأساس بقي على ما هو قائم على الفكرة العلمانية ضمنا. وبعد أن قامت الثورة عام 2011 وجرت انتخابات برلمانية ورئاسية عام 2012 وحصلت الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية على الأكثرية وأصبح مرشح جماعة الإخوان المسلمين رئيسا للجمهورية جرت تعديلات في الدستور والتي أقرت يوم 25/12/2012، ولكنه لم يجر أي تغيير على أساس الدستور من نظام جمهوري ديمقراطي يقر بفصل الدين عن الدولة ضمنيا.
وفي تونس وضع بورقيبة دستورا عام 1959، وفي سنوات مختلفة جرت عليه تعديلات ولكنها لم تمس الأساس العلماني الذي تقوم عليه الدولة ويستند إليه الدستور، وبعد الثورة وسقوط بن علي صدر دستور جديد في بداية عام 2014 على عهد حركة النهضة باعتبارها حركة إسلامية بقيادة الغنوشي، ولكن الأساس لم يتغير عندما نص الدستور على أن تونس دولة مدنية ذات نظام جمهوري ديمقراطي، السيادة فيها للشعب. ويعني كل ذلك العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة. وعبارة "الإسلام دينها" التي وردت في المادة الأولى من الدستور هي شكلية ورمزية وليس لها أي دور في الدستور، إذ إن المواد الأخرى تناقض الإسلام. فحق التشريع للبرلمان كونه ممثلا عن الشعب فلا تستنبط القوانين من القرآن والسنة، ونظام الحكم والنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسات الداخلية والخارجية والتعليمية والحربية والعقوبات كلها تخالف الإسلام.
وعندما جرت انتخابات في تونس ومصر بعد الثورة انتخبت أكثرية الناس الأحزاب التي عرّفت نفسها بأنها إسلامية. وهذا يدل على أن الشعوب تريد الإسلام، وكان من المفروض أن يقام نظام يستند إلى الإسلام، ولكن هذه الأحزاب والحركات خذلت الشعوب الإسلامية وانخرطت في الأنظمة العلمانية وشرعنتها من جديد. ومثل ذلك حصل في تركيا وفي غيرها من البلاد الإسلامية. والشعوب وإن أصبح لديها الوعي العام إلا أنها لم تبلور بعد الفكرة السياسية في الإسلام. وقد وضعت ثقتها في هذه الجماعات والأحزاب لكونها تدّعي أنها إسلامية. علما أن الجماعات والأحزاب تلعب دورا مهما في توعية الناس وتثقيفهم ومن ثم قيادتهم.
إذ لم تكن هذه الأحزاب عقائدية أو مبدئية ولم تكن لديها الإرادة الصحيحة للثبات على فكرتها ولم تكن قد بلورت الإسلام كنظام للحياة، وإنما أطلقت شعارات أوهمت الناس بها أنها ستطبق الإسلام. وقد أطلق عليها حركات الإسلام المعتدل، أي التي لديها الاستعداد للتنازل والمشاركة في الأنظمة الديمقراطية العلمانية وتطبيقها، فكانت النتيجة أن الوضع لم يتغير بعد الثورة، والظلم لم يزل عن كاهل الناس، والأحوال لم تتحسن، ولم تتطهر البلاد من الفساد والفاسدين، فسقطت رؤوس فاسدة وحلت محلها رؤوس ليست بأصلح منها، بل إن المشاكل تفاقمت.
وأما في ليبيا وسوريا واليمن فإنه قد جرى تدخل الدول الأجنبية الاستعمارية والقوى الإقليمية التابعة لها بشكل مباشر. ولهذا ما زالت هذه البلاد تعيش في فوضى واضطراب ودمار وتسيل فيها الدماء. وأما باقي البلاد التي شهدت تحركات شعبية فقد جرى التحايل عليها بأشكال مختلفة، ولكن الشعوب غير راضية، وفي أية لحظة ربما تنفجر في وجه الأنظمة الجائرة.
فالأمة تحتاج إلى حركة سياسية مبدئية تحدث فيها تغييرا جذريا، وتحتاج إلى قيادة عقائدية سياسية واعية تقودها وتنهض بها وتسيّر شؤونها بشكل صحيح وتحل مشاكلها بشكل جذري، وهي في غنى عن القيادات النفعية المسترزقة بالعمل السياسي، وليست بحاجة إلى ما يطلق عليها قيادات براغماتية أو واقعية أو إسلامية معتدلة فهي لا تختلف عن القيادات السياسية النفعية الموجودة على رأس السلطة. فالواقع مريض يحتاج إلى علاج جذري، وهذه القيادات ليس لديها العلاج، وإنما تأخذ علاجها من الواقع المريض والفاسد وتنخرط فيه وتغرق في مستنقعاته.
فالذي يقوم بحركة التغيير الجذري هو الحزب صاحب الفكرة السياسية المبدئية، وهو الذي يقود الأمة قيادة سياسية واعية حسب المبدأ. والمبدأ الصحيح هو الإسلام لا غير، ولا يمكن للأمة أن تنهض نهضة صحيحة إلا بالإسلام. ولكن على هذا الحزب أن يتغلب على كل تلك القيادات وعلى كافة التيارات المخالفة والقوى الأجنبية الاستعمارية وأتباعها؛ إذ إن كل هؤلاء يمكن أن يعمل كل من طرفه ضد القيادة السياسية المبدئية المخلصة أو يتعاونوا معا ويسخّروا كل إمكانياتهم ويستعملوا كل أساليبهم الخبيثة ليحولوا دون وصول تلك القيادة المخلصة ومنعها من تولي قيادة الأمة. فلا يضيرهم أن يفتروا عليها وينتقصوا من قدرها ويشككوا في إخلاصها واتهامها بكافة التهم، عدا التضييق عليها ومحاربة شبابها، بجانب سياسة التعتيم الممنهجة تجاهها. ولذلك تزداد الأعباء عليها والعراقيل أمامها. وبما أنها مبدئية فما عليها إلا الثبات ومواصلة الكفاح وعدم الاستسلام وألا يتطرق إليها اليأس والوهن، عزيزة وقوية وهي متوكلة على ربها حق التوكل. بل تبحث عن أساليب جديدة دون مخالفة لمبدئها بفكرته وطريقته. فهي حركة جادة مبصرة لطريقتها هاضمة لقضيتها وواعية على الواقع ترى ما وراء الجدار، ومدركة للخطوب والعراقيل، فلا تتنازل ولا تهادن ولا تداهن، وسوف تفوز في النهاية بإذن الله.
إن الأمر يتطلب إيجاد الرأي العام لهذه القيادة السياسة الواعية المخلصة أي للحزب المبدئي وللفكرة السياسية الإسلامية وللدستور الإسلامي، فيجب على الحزب أن يزيد من حملته في التعريف عن نفسه وفكرته ودستوره، وجعل الناس يسمعون به ويثقون به وبما يحمله وما يدعو له، وأنه هو القادر على حل المشاكل فلديه الحلول الجذرية، وهو القادر على القيادة السياسية لأن لديه الأفكار السياسية والعراقة السياسية، وهو القادر على تحقيق النهضة لأن لديه الأفكار العميقة والتفكير المستنير، وقد تجلى لديه الرقي الفكري، وهو القادر أن يخلص البلاد من التبعية للقوى الاستعمارية أو القوى الإقليمية التابعة لها، ولأنه نجح في أن يحصن نفسه من الانحراف عن طريقه أو عن مبدئه أو السقوط في أحابيل المستعمر أو الدول التابعة للمستعمر أو التنازل عن أية فكرة من أفكاره على مدى أكثر من ستين عاما، فهو جدير بقيادة الأمة والأخذ بيدها وجعلها في مصاف الأمم الراقية، بل تتفوق عليها. فإيجاد الرأي العام للحزب ولفكرته ودستوره والسمعة الطيبة له عند الناس وكسب ثقتهم أمور في غاية الأهمية، وهي التي تمكن من كسب النصرة وإقامة الدولة.
إن الأمة كيان متأثر ومتفاعل، والحزب كيان مؤثر وفاعل، فهو الذي يؤثر فيها ويحدث فيها الانقلاب، والأمة عندما تحل بها المصائب والنكبات تبحث عن الحلول وعن القائد، فالحزب هو قائدها والحلول لديه جاهزة، وكيفية تطبيقها معروفة لديه، فيجب تعريف الأمة بذلك وجعلها تثق به. وبما أن جذوة ثورة الأمة التي انتكبت وحلت بها المصائب والبلايا العظام ستبقى متوقدة حتى يتحقق لها كل ما تريد فهذا يبشر بخير، فإذا لم يتحقق لها التغيير الجذري وتحل المشاكل وتلبى المطالب وتتحسن الأوضاع فسوف تندلع في أي لحظة، فالكبت والسحق الذي تمارسه الأنظمة لن يخمد ثورة الأمة ومطالبتها بالتغيير، فهي كالحصان الأصيل مهما أصابه من جوع وتعب يبقى أصيلا وأبيا. وكما نما وعيها وازداد حتى أدركت أن المشكلة في النظام فثارت عليه، فسوف ينمو وعيها ويزداد على الفكرة السياسية النابعة من دينها وتزداد الثقة بقيادتها السياسية الواعية المخلصة حتى تقيم خلافتها الراشدة على منهاج النبوة بإذن الله كما بشر رسولها الكريم ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» أخرجه أحمد.
رأيك في الموضوع