تحدثنا في الجزء الأول عن أصل الأزمة تاريخيا وكيف كان البايات عموما مع اختلاف في قوة وضعف الولاء وللباب العالي مع ما لهم من نوازع استقلالية وميول أوروبية خاصة لو نظرنا في الموضوع وراعينا السياق وهو سياق ثورة صناعية أوروبية أبهرت الأبصار وأدخلت ارتباكا على العملاق العثماني الذي يريد الجمع بين المبدئية والواقعية أو بين التجذر في الهوية والأصالة والعصرنة أو بين المحافظة على الصفة والمضامين الإسلامية من حيث إن الدولة العثمانية هي الممثل الوحيد للمسلمين في العالم ككيان سياسي وبين أخذ نصيب من الثورة الصناعية بشكل يليق بدولة تتصدر وتتحكم في الموقف الدولي.
كان الارتباك واضحا وظاهرا في التعامل مع هذا المستجد خاصة مع الضعف التشريعي وتسرب الضعف الفكري بحيث كان كل شيء دخيل وغربي يُصبغ بصبغة الإسلام فيوقع عليه شيخ الإسلام بحيث "ما لا يخالف الإسلام فهو من الإسلام"، فكان مفهوما أن يسيطر على البايات هاجس ما يسمى بالإصلاح والعصرنة والتنافس على إحداث ثورة إصلاحية من حيث المظاهر المدنية بعقلية تسهيل رعاية شؤون الناس ولكن لم يكن مقبولا ولا مبررا أن يميلوا كل الميل إلى حد أخذ قوانين غربية مؤشرة بطابع إسلامي وإعطاء الطامعين من بريطانيين وألمان وفرنسيين وإيطاليين ثقة وأن يكونوا محل إجلال وإكبار بحيث يشرفون على قطاعات حساسة من تكوين عسكريين وأساتذة ومعلمين وإداريين، وكلّ ذلك ما كان ليكون لو كان الإسلام مفهوما بشكل صحيح وسليم من حيث التفريق بين ما يؤخذ من الغرب وما يرد.
حتى لا نستغرق في قراءة الواقع قراءة نقدية نعود لنواصل من حيث انتهينا في المقالة السابقة للحديث عن أزمة تونس المتوارثة التي يحاول الفاعلون في المشهد السياسي اليوم تسطيحها وجعل المشاكل تقنية وإدارية ولكن الجذور عميقة متوارثة، واليوم نأتي على فترة مهمة من تاريخ البايات والتي فيها إحداث لجنة مالية دولية وإحداث دستور الأمان وتغريب البلاد حضاريا وتمكين الأجانب عن طريق امتيازات كبيرة مع إرهاق أهل البلد بضرائب كانت مقدمة لحراك وثورة علي بن غذاهم وكل ذلك كان موجوداً في عهد الباي محمد وأحمد باي ولكن تبلور وتدستر في عهد محمد الصادق باي ووزيره خير الدين التونسي أو خير الدين باشا.
محمد الصادق باي ( 1859 – 1882):
أبرز ما ميّز فترة هذا الباي الذي مدحه الكثير وانتقده آخرون هو إعلانه لدستور عهد الأمان سنة 1861 وهو الدستور الذي مثل مسخ الهوية الإسلامية للبلد وبداية تغريب لعينة لأهالي الإيالة التونسية فكان ترسيخ القيم الأوروبية حيث احتوت بنوده الثلاثة الأولى على دسترة الحريات الشخصية والضرائب المجحفة دون تمييز بين الأشخاص والأديان والسماح للأجانب بحرية امتلاك الأراضي العقارية بالإضافة إلى امتيازات التنقيب عن مختلف المعادن حيث كان معظمها من نصيب فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وهذا ما يزيل الغرابة عن أزمة هذا البلد في علاقته بثرواته المنهوبة والتي فرط فيها البايات ولم تبال بها دولة ما يسمى الاستقلال، وتم استدعاء الإرهاب والاغتيالات السياسية من أجل أن يظل هذا البلد محروما من ثرواته محكوما بدستور لا يختلف إلا في شكليات عن دستور الأمان حيث ظلت الدساتير من دستور الأمان 1861 فدستور 1959 حتى دستور 2014 كلّها لا تراعي إلا شيئا واحدا وهو: مصالح المستعمرين وخدمهم من السياسيين ورجال المال والأعمال حتى يبقى هذا البلد تحت وصاية المستعمرين، فأصبحنا كقول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمول
هذا أبرز حدث في عهد الباي محمد الصادق باي الذي كان تتويجاً لمقدمات أحمد محمد باي إذ كرس دستور الأمان الشخصية الغربية الحضارية للبلد في محاولة من البايات في نقض عروة الانتماء الإسلامي للدولة العثمانية ومحاكاة للأوروبيين وخاصة الوزير خير الدين باشا الملقب بخير الدين التونسي الذي كان يبدو عليه محاولة للجمع بين الأصالة والمواكبة في نظرة توفيقية تفتقد التأصيل الشرعي الذي لا يشذ عن التوجه العثماني ككل، حيث كان يسعى هذا الوزير إلى توثيق الصلة مع الباب العالي وفي الوقت نفسه كان منبهرا بالثقافة الأوروبية، وهذا واضح حيث أقام هذا الوزير نظاما برلمانيا وأسس لمجلس تشريعي له سلطة واسعة منها التشريع وحتى خلع الأمير إذا خالف الدستور، كما أن خير الدين باشا هو مؤسس مدرسة الصادقية التي قوبلت باستياء كبير وواسع في الشعب حيث اعتبرت محاضن تكوين المثقفين ثقافة أوروبية تكوّن أعداء مستقبليّين للبلد.
نعم كان هذا التخبط الكبير والانبهار الذي أعمى الأبصار سببا في عكس أصل المشكل من كونه مشكل فهم صحيح للإسلام إلى مشكل مزيف غير واقعي وهو دستور للبلد كما للأوروبيين دساتير حتى نواكب العصر ونتطور كما تطوروا.
فكان كلّ هذا مقدمة لثورة علي بن غذاهم سنة 1864 التي كانت تعتمل بسبب بيع الباي البلد للأوروبيين ومحاولة تغريب البلد وإدخال قوانين كفر على البلد زائد إثقال كاهل الناس بالضرائب دون مراعاة لأي فارق أو طبقة مجتمعية فكانت تطال الجميع علماء وعسكر وطلبة وفلاحين ويهود حاضرة كل الناس عوض أن لا تكون ضرائب على الشعب لأنها محرمة شرعا وليست من الطرق التي يسمح بها الإسلام حيث يجيز الإسلام فقط ضرائب على الأغنياء وفي أزمات معينة وبقدر معين وبشروط معينة في حالة شغور خزينة الدولة مما يكفي. فكانت ثورة انتهت بسجن علي بن غذاهم ليموت مسمّما في الاعتقال وحيث نجح مصطفى خزندار المعروف بفساده ورهنه للبلد بزرع الفتنة القبلية والعروشية وسط الثوار فأفشل الثورة ودعم ركائز دستور الأمان.
وخلاصة القول إن فترة حكم الصادق الباي التي سبقت فترة الاستعمار المباشر كانت تتسم بتغيير ملامح البلد وتهيئتها لفك ارتباطها مع الباب العالي وتمكين الأجانب خاصة الفرنسيين منها ومن ثرواتها وإنشاء محاكم خاصة بهم بحيث يخضعون في بعض القضايا إلى أحكام قناصلهم عوضا عن الحكم العثماني، وبالتالي كانت تهيئة لوضع تونس تحت وصاية المستعمرين الذين تغلغلوا في البلد إلى حدّ كتابة هذه الأسطر بل وحيث حتى اللحظة نتوارث هذه الأزمة والكل حكاما ومحكومين منذ البايات وحتى دولة ما بعد الاستقلال بل حتى ما بعد الثورة - إلا من رحم الله - أقصى ما يفعله الحكام والوسط السياسي هو فقط تحسين شروط العبودية وتغيير صعيد المعركة من معركة ضد الاستعمار لاسترجاع تونس منهم إلى خفض السقف لتكون معركة ضد الدكتاتورية لإرساء نظام برلماني هو نفسه ما أرساه البايات قبل الحماية والاستعمار...
وما أشبه اليوم بالأمس!
رأيك في الموضوع