الجزء الثالث
ملاحظة: نشر الجزآن السابقان في العددين181 و183
إن أهل الأردن يتناطحهم في آن واحد، استعمار إنجليزي قديم واستعمار أمريكي جديد ولكل منهما أدواته ووسطه السياسي على الساحة الأردنية. وإن الحمى المرعبة التي أصابت أزلام النظام الأردني ووسطه السياسي خاصة في الحراك الأخير عند الدوار الرابع منذ الأسبوعين الأخيرين ما هو إلا مؤشر على وجود هذا التناطح بين النظام العميل الإنجليزي وبين أدوات أمريكا الجديدة. وإن المعركة السياسية على الدوار الرابع كالحرب السجال، فمرة يظفر به النظام وأزلامه ومرة يحظى به غيره من أدوات أمريكية، غير أن هذا الحراك الشعبي الممتد على المساحة الواسعة في مدن الأردن لا يخلو من حريصين مخلصين لقضيتهم من كافة أطياف الشعب الأردني والذين لا ينتسبون إلى مثل هذه الأجندات المشبوهة سواء أكانت أجندة النظام أم أجندة أمريكا.
وإذا ما شعر النظام أن حراك الدوار الرابع أو غيره خرج عن الخط التقليدي في الهدف الإصلاحي، وذلك بارتفاع سقف المطالب من مناداة بإصلاحات ترقيعية إلى المطالبة بعقد اجتماعي جديد أو ولاية عامة وتغيير لشكل النظام، فإنه سرعان ما يقوم بفض التجمعات الحراكية والاحتجاجات ولو بالقوة وهو ما حدث في أحداث الدوار الرابع الأخيرة. على عكس أحداث الرابع الأولى قبل شهور عدة والذي كان بنكهة ملكية خدمة لأجندة سياسية أرادها النظام من أجل ابتزاز أموال الخليج وتخفيف ضغط صندوق النقد الدولي الذي هو حقيقته أداة استعمارية أمريكية تستغله في بسط نفوذها السياسي على كثير من الدول.
إنه لا أدل على هذه الحمى التي أصابت الوسط السياسي القديم التابع للإنجليز من ذلك الاجتماع في 18/12/2018 الذي ضم شخصيات بارزة منه، فقد نشر موقع مدار الساعة أن اجتماعا طارئا انعقد لـ40 شخصية بينهم 3 رؤساء وزارات ووزراء وقائد جيش ومدير أمن سابقون وعسكريون: الأردن في أزمة ولن نبقى متفرجين. وورد فيه أيضا: "إلى أين تسير الأمور؟" سؤال طغى على الاجتماع، الذي ضم رؤساء الوزارات السابقين الدكتور عبد السلام المجالي، وطاهر المصري وعبد الرؤوف الروابدة وغيرهم من الوزراء.
ما كان لهؤلاء أن يجتمعوا في حالة من العجلة والاستنفار إلا لأن دهاقنة هذا الوسط التابع معظمه للإنجليز يدركون أن الرحى الأمريكية تدور حولهم، تريد طحنهم، لصالح ما لدى أمريكا من أوساط سياسية جديدة ومنهم ما أطلق عليهم بالليبراليين الجدد وغيرهم من سائر الأوساط في كافة مؤسسات الدولة.
إن الحراكيين في الأردن هم على ثلاثة أصناف:
فالنوع الأول هو حراك حقيقي شعبي مخلص لمطالبه بناء على شعورهم بفشل الدولة والنظام، فيريدون الخلاص الحقيقي بعيدا عن الارتباط بالمستعمر الكافر وأجنداته، وهذا يكاد يمثل الشريحة الغالبة في الشعب الأردني الكريم الذي لا يقبل الظلم والفساد والقهر.
أما النوع الثاني فهو يتحرك ضمن أطر مرسومة له مسبقا من قبل الأدوات الأمريكية وما يخططون له من مطالبات بولاية عامة ما يسمى بالعقد الاجتماعي الجديد، مؤيدون بذلك لأجندة الرزاز السابقة وصاحبه مروان المعشر السفير السابق للأردن في أمريكا، ومن هم على شاكلتهم، والتي كانت أمريكا تعمل لتحقيقها خاصة قبل تعديل الملك للدستور. وربما عادت مجددا تحت كثير من الشعارات، لذلك وجدنا الرزاز يدفعهم إلى هذا التوجه من خلال كلامه حينما اجتمع مع بعض رؤوس الحراكيين قبل أيام من احتجاجات الدوار الرابع.
وأما النوع الثالث فهو كالماء الآسن، وهو حراك موالٍ لرأس النظام وأجندته المبقية على تبعية البلاد للنفود الإنجليزي القديم، ولا زال هذا النوع يقتات على فتات النظام لتبعيته له، لكنهم يتماهون بحراكهم مطالبين ببعض الإصلاحات وبعض التعديلات الدستورية الطفيفة فهي مطالبات كالديكور مطلبها تحسين شروط العبودية للنظام. يحاولون بحراكهم هذا احتواء سائر الاحتجاجات الشعبية والتخريب عليهم.
لكن الملاحظ أن خطاب الحكومة الأردنية وخطاب النظام في الأردن في هذا الحين يجعلان القضية في الأردن أنها قضية فساد هو تعمية للناس عن حقيقة المشكلة في الأردن وذر الرماد في العيون، لأن المشكلة هي أعمق من أن توصف بمجرد فساد إداري أو فساد أشخاص أو فساد اقتصادي فقط، فالمشكلة في حقيقتها تتمثل في أمرين أساسيين:
أولهما: أن النظام المطبق على أهل الأردن هو نظام كفر يستمد تشريعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية من دساتير الكفر الوضعية الرأسمالية، والذي فرض الغرب الكافر المستعمر تطبيقه على بلاد المسلمين منذ الاستعمار البريطاني، حيث أورث المسلمين الظلم والفساد والقهر والاستبداد في كافة مناحي الحياة منذ أن عمل الغرب الكافر المستعمر على هدم دولة الخلافة العثمانية بمعية الخونة من العرب والترك.
ثانيهما: أن رأس النظام في الأردن التابع للإنجليز يحافظ على بقاء وجود المستعمر الإنجليزي الكافر في الأردن، حيث قام رأس النظام منذ عقود إلى يومنا هذا برهن القرار السياسي بيد الإنجليز وتسخير مقدرات البلاد في خدمة هذا الاستعمار.
في المقابل تعمل أمريكا التي ترى نفسها الوريثة المستحقة لكل ما تبقى من النفوذ الإنجليزي القديم في العالم الإسلامي، تعمل جادة على استئصال جذور النفوذ الإنجليزي في الأردن والذي يرتكز على أدوات ووسط سياسي فاسد منقوع في الخيانة والعمالة والنهب، والذي بات اليوم مستنفرا معلنا حالة العويل القصوى، فتراه يعقد الاجتماعات تلو الأخرى لإيجاد حلول يحمي بها نفوذ أسيادهم من الإنجليز ويرد عن نفسه ما استطاع من السقوط بسبب التخمة التي أصابت جميع شخوصهم جراء فساد ذممهم ونهب أموال الناس وملكياتهم العامة بكل أنواع البوائق.
إلا أن أمريكا ومن خلال أساليبها وطرقها المتعددة وضغوطها المستمرة بأنواعها على النظام في الأردن، تهدف بذلك إلى بسط نفوذها الغاشم محل النفوذ الإنجليزي القديم العفن المتمثل بأدواته من الوسط السياسي وأجهزته.
ولقد استطاعت أمريكا من خلال نشاط سفارتها في الأردن عبر السنوات الماضية حتى هذا اليوم من اختراق أوساط متعددة وربط شخصيات أردنية بها من كافة المؤسسات والهيئات والفعاليات المجتمعية.
وجراء هذا النزاع والتناطح بين المتصارعَيْن؛ الاستعمار الإنجليزي والاستعمار الأمريكي، على النفوذ في الأردن، يعيش أهل الأردن تحت هذه السطوة الغاشمة التي أذاقتهم الويلات والذل والهوان وارتهان قرارهم السياسي واقتصادهم ولقمة خبزهم لهما أو لأحدهما.
إن هذا الظرف السياسي القميء الذي يعيشه أهل الأردن ليس له كاشفة إلا بالعمل على طرد النفوذَيْن اللذَيْن يتصارعان على امتصاص خيرات البلاد ولجعلها تابعة لأحدهما دون الآخر والإبقاء على أهل الأردن تابعا لها، والذي لن يتم إلا بخلع نفوذ الغرب المستعمر كله والعمل مع حزب التحرير الذي أخذ على عاتقه بمعية أمته التي هي حاضنته أن يكشف خطط الاستعمار ويجليها لأمته كي تحذر وتتجنب الوقوع بفخاخ الاستعمار المتصارع بشقيه الأوروبي والأمريكي الصليبيين. كما أخذ على عاتقه إنقاذ أمته والبشرية جمعاء من هيمنة كفر النظام الرأسمالي بإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تطبق العدل والإحسان في جميع مناحي الحياة على أساس عقيدة الإسلام ونظامها الشامل.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الرحمن
رأيك في الموضوع