إن تركيا منذ أن أعلنت فيها الجمهورية وألغيت الخلافة ووقعت اتفاقية لوزان التي تخلت بموجبها عن أراضي الدولة العثمانية، قد ارتبطت ببريطانيا التي احتلتها وكان لها الدور الرئيس في كل ذلك، ووقعت اتفاقيات معها، ومنها اتفاقية الصداقة التركية الإنجليزية التي وصفها عصمت إينونو وريث مصطفى كمال بأنها ركيزة السياسة الخارجية التركية. أي أن سياسة تركيا الخارجية مرتبطة ببريطانيا وتدور في فلكها.
ولكن منذ مجيء مندريس عام 1950 بدأت تركيا تدور في فلك أمريكا بالإضافة إلى دورانها في فلك بريطانيا. وعندما جاء أردوغان عام 2003 عمل على حصر دورانها في فلك أمريكا، حتى تمكن من ذلك عام 2011 بالدعم الأمريكي. وكانت العلاقات بينهما تسير بشكل جيد ولم يتصادما في شيء يذكر. وكانت أمريكا بحاجة إليه لتركز نفوذها وتنهي أو تضعف نفوذ بريطانيا على الأقل، وقد كان لها ذلك، فأصبحت تتصرف بعدم الاكتراث بأردوغان كثيرا وتملي عليه ما تريد ولا تكترث بغضبه عندما لا توافقه على ما يريد، فإذا ذهب فهناك غيره فلا تأسف عليه، والإنجليز قد تلقوا ضربة قوية في الجيش وفي الوسط السياسي وفي القطاع الاقتصادي والتعليمي والقضاء، وتركز في هذه المراكز عملاؤها أو من يدور في فلكها. وهذا دأب أمريكا بعدما تتركز في بلد فهي لا تعود تكترث بالعملاء إلا بقدر ما ينفذون مشاريعها ويؤمّنون الاستقرار لنفوذها كما حدث في مصر؛ فأبعدت مبارك ووافقت على مجيء مرسي ومن ثم وافقت على سقوطه وأتت بالسيسي، وفي الباكستان عندما قوضت النفوذ الإنجليزي بدأت تلعب بالعملاء، تسقط نواز شريف وتأتي بمشرف، وتسقطه وتأتي بزرداري، ومن ثم بغيره، وبنواز شريف مرة أخرى ليكون عبدا مطيعا لها أكثر من المرة الأولى. وفعلت مثل ذلك في العراق من علاوي إلى الجعفري إلى المالكي وأخيرا العبادي، وفي إندونيسيا فعلت مثل ذلك. فتظهر عنجهيتها وغطرستها حتى على عملائها.
وقد ظهر مثل ذلك في احتجاجات منتزه غزي باسطنبول عام 2013، فكان الموقف الأمريكي منتقدا لأردوغان لقمعه الاحتجاجات، فصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية جينفر بساكي يوم 1/6/2013: "أن السبيل الأفضل لضمان الاستقرار والأمن والازدهار في تركيا هو دعم حريات التعبير والتجمع وتشكيل الجمعيات التي كان هؤلاء الأشخاص يمارسونها على ما يبدو"، وأعربت عن "قلقها بشأن الأشخاص الذين جرحوا في الاحتجاجات". وقام كتاب محسوبون على الوسط السياسي التابع لأمريكا ومنهم جماعة غولان بانتقاد أردوغان مستغلين الاحتجاجات. وبعدها قامت هذه الجماعة بواسطة منتسبيها في الأمن والقضاء بإثارة قضية الفساد يوم 17/12/2013 فاعتبرها أردوغان محاولة انقلاب، وبدأ بشكل جاد بتصفية هذه الجماعة، وإن بدأت الاختلافات بينهما عام 2011 عندما أسقط أردوغان مرشحي هذه الجماعة للانتخابات البرلمانية، فقامت الجماعة بفضح اتصالات الحكومة مع الحزب الكردستاني بواسطة رئيس المخابرات وعملت على إسقاطه ليكون أحد منتسبيها رئيسا للمخابرات، فقام أردوغان ببعض التصفيات لمنتسبي هذه الجماعة شملت حوالي 500 ضابط أمن. إلا أنه بعد إثارة الجماعة لقضية الفساد أدرك أردوغان مدى خطورة هذه الجماعة فوصفها بالإرهابية وأعلن الحرب عليها، وطالب بتسليم رئيس الجماعة فتح الله غولان القابع في ولاية بنسلفانيا بأمريكا يعمل لحسابها حيث تعقد له المؤتمرات في الكونغرس ليروج للإسلام المعتدل جاعلا النصارى واليهود مؤمنين كالمسلمين ومؤيدا للسياسة الأمريكية في المنطقة ومحاربا لفكرة الخلافة ولثورات الأمة، وخاصة الثورة السورية واصفا الثوار بالإرهابيين، ومؤيدا لكيان يهود ومنتقدا لأردوغان في تعامله مع هذا الكيان، فأمريكا لم تتجاوب مع أردوغان في قضية غولان ولم تسلمه.
طالب أردوغان أمريكا بالتدخل المباشر في سوريا فرفضت وأسكتته عندما قام بزيارتها يوم 16/5/2013 والتقى رئيسها أوباما، وبدأ يطالب بإقامة مناطق آمنة لإيواء اللاجئين ولمنع اتخاذ الحزب الكردستاني المنطقة نقطة انطلاق ولمنع ظهور شكل حكم للأكراد في سوريا مما يؤثر على وضع الأكراد داخل تركيا فيبدأوا بالمطالبة بمثل ذلك. فرفضت أمريكا ذلك على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي يوم 30/6/2015 بقوله: "لا يشعر البنتاغون والجيش الأمريكي أو التحالف بحاجة حاليا إلى إقامة منطقة عازلة، ولذلك صعوبات. ولكن ندرك قلق تركيا على حدودها".
إن علاقات تركيا كانت جيدة مع الحزب الكردي الديمقراطي برئاسة صالح مسلم الذي أعلن عام 2013 أنه اتفق مع إيران وتركيا على محاربة الحركات الإسلامية التي تدعو إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في سوريا وكشف عن زيارته لتركيا ولقائه مع رئيس مخابراتها. ولكن العلاقات بين الطرفين تدهورت عندما أقام هذا الحزب أربع كانتونات في شمال سوريا عام 2014 ليوجد شكلا من الحكم الكردي في المنطقة، فدعت تركيا صالح مسلم للحديث معه في هذا الموضوع يوم 4/10/2014 وعقبها أعلن رئيس الوزراء التركي داود أوغلو أنهم تكلموا معه بشأن هذه الكانتونات وطالبوه بالتخلي عن ذلك. ومن ثم التقى الأمريكيون صالح مسلم في فرنسا فأثار أردوغان القضية قائلا: "للأسف أن من نعدهم حلفاءنا وأصدقاءنا الأمريكان يلتقون مع الحزب الذي هو امتداد لحزب العمال الكردستاني الإرهابي".
وجاء انزعاج تركيا من أمريكا عندما استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الأمريكي لديها يوم 8/2/2016 عقب تصريحات للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية كيربي يوم 7/2/2016 عند سؤاله عن الاختلاف في الرأي بين البلدين قال: "كما تعلمون، نحن لا نعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي منظمة إرهابية". وقد أبدى أردوغان انزعاجه منها حيث قال يوم 10/2/2016: "على الولايات المتحدة تحديد موقفها هل هي معنا أم مع التنظيمات الإرهابية". واتهمها بتحويل المنطقة إلى "بركة دماء" بدعمها للأكراد.واتهمها بالتلاعب قائلا: "المسؤولون الأمريكان يوافقوننا في الرأي أثناء الاجتماعات، ثم يغيرون مواقفهم بعدما ينصرفوا". ولأول مرة يقوم الجيش التركي يوم 13/2/2106 بقصف مواقع لهذا الحزب داخل سوريا بعد ساعات من تحذير رئيس الوزراء التركي بأن "تركيا ستتحرك إذا واجهت تهديدا عبر حدودها". وتدعم أمريكا هذا الحزب الذي يقاتل بجانبها مع نظام بشار وإيران وحزبها في لبنان بالإضافة إلى روسيا ضد الحركات الإسلامية التي تعمل على إسقاط النظام العلماني التابع لأمريكا وتدعو إلى إقامة الخلافة الراشدة وتحكيم الإسلام.
إن تأثير أمريكا قوي على أردوغان حيث إنها دعمته في الوصول إلى الحكم، فهو يشعر أنه لم يستطع أن يصل إلى الحكم ويثبت نفوذه في الداخل إلا بمساعدتها، فيرى مصيره مرتبطاً بأمريكا التي أصبحت لها سيطرة كبيرة في تركيا بحيث تستطيع أن تتحكم في الحكم والحكام والقضاء والاقتصاد والجيش والأجهزة الأمنية. ولهذا أصبح خروج تركيا في أية جزئية عن السياسة الخارجية الأمريكية أمرا بالغ الصعوبة. وأصبح موقف أردوغان صعبا وحرجا عندما أمسكت أمريكا بكثير من الخيوط في البلد وأصبح مصيره معلقا بها، فهو يطالب بشيء ولا تلبيه، فيسكت، ويعترض على شيء، ولا تقبله، فيهدأ ويواصل ارتباطه بها!!
هذه هي نتيجة الارتباط بأمريكا، وهي بالفعل شيطان كبير، تخدع الناس وتسخرهم وتتلاعب بهم ومن ثم تتخلى عنهم أو تقذفهم عندما تشعر أنها ليست بحاجة إليهم أو أنهم لم يعودوا ينفعونها أو أن وجودهم يضر بمصالحها أو أن مصلحتها عند آخرين. وهي تعمل على كسب قوى كثيرة في أي بلد، لتستخدمهم عند الضرورة. فجماعة غولان استخدمتها أمريكا لتصفية النفوذ الإنجليزي ولدعم أردوغان في تنفيذ السياسة الأمريكية، وهذه الجماعة وإن كانت ليست سياسية ولكنها طمعت فأرادت أن تجعل أردوغان وحزبه تحت تحكمها لتحقق مصالحها وتركز منتسبيها في مراكز مهمة بالدولة. فعندما لم تحصل على ذلك بدأت تعمل على إسقاطه ودعم رئيس الجمهورية السابق غول ونائب رئيس الوزراء السابق أرينتج ممن أظهروا ليونة في المواقف تجاهها. وهناك أحزاب أخرى كالحزب القومي وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي وتنظيمات في المجتمع المدني تتبع السياسة الأمريكية تستخدمها أمريكا للضغط على أردوغان إذا عارضها كما استخدمتها في تأييد السياسات التي ينفذها لها.
ومن كل هذا يتبين أن أردوغان لم ينفك عن الارتباط بأمريكا، فنراه يريد شيئا وهي ترفض فيخضع وينفذ رغباتها من احتضان عملائها في الائتلاف الوطني السوري وتدريب معارضة عميلة، وفتح قاعدة إنجرليك لضرب أهل سوريا، وعدم تنفيذ فكرة المنطقة الآمنة، وخضوعه لأوامرها ببناء الجدار العازل مع سوريا لمنع الإمدادات عن الثوار، وقبوله بمقررات جنيف وفينّا والرياض التي تقرّ ببقاء النظام العلماني الكافر في سوريا، ومحافظته على العلاقة مع كيان يهود واستعداده لتطويرها، ومحاربته لفكرة الخلافة والساعين لإقامتها وغير ذلك كثير. والآن إذا طلبت منه إرسال قوات مع السعودية إلى سوريا لتنفيذ سياستها فإنه سيلبي طلبها.
ولهذا فإن الارتباط بدولة أخرى وخاصة إذا كانت استعمارية كأمريكا هي مقامرة كبرى بالمصير، عدا عن كونها جريمة كبرى وخيانة عظمى تجعل مصير البلد مرتبطاً بتلك الدولة. والارتباط الصحيح لا يكون إلا بالأمة فقط والاعتماد على قوتها وجعلها السند الطبيعي لتقف في وجه أمريكا وغيرها، والاعتصام بحبل الله والثقة به أولا وآخرا وهو خير الناصرين.
رأيك في الموضوع