لدى افتتاح جلسة الاجتماع الثالث لـ"هيئة الحوار مع مسلمي فرنسا" التي عقدت يوم الاثنين 12/12/2016م في مقر وزارة الداخلية الفرنسية، أعلن الوزير الأول الفرنسي برنار كازنيف عن بدء مرحلة جديدةٍ من المكر والخبث الفرنسي تجاه المسلمين عنوانها لزومُ حضور الدولةِ الفرنسية بشكل مستعجل، وحتميةُ ضلوعها وتدخلها بشكل أعمق وكذا الإشراف والتكفل بشكل أفضل بتنظيم ما أسماه شؤون الديانة الإسلامية في فرنسا.
في هذا السياق وفي منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر 2016م جرى مجدداً - بكل وقاحة وجرأة من قِـبل فرنسا الاستعمارية الحاقدة على الأمة الإسلامية - تنصيبُ هيئة جديدةٍ لهذا الغرض، يمكن تسميتها: "مؤسسة الإسلام الفرنسي" مقرُّها في باريس!
أما سبب تجرؤ الحكومة الفرنسية على عقيدة الإسلام ومفاهيمه وقيمِه وحضارتِه بهذا الشكل غيرِ المسبوق فمرده إلى أمرين اثنين: أحدهما ما تراه فرنسا خطراً داهماً عليها في عقر دارها بسبب تزايد أعداد المسلمين وتنامي حضور الإسلام في حياة المجتمع في فرنسا ثقافياً واقتصادياً وحتى سياسياً وأمنياً، ومن ذلك مثلاً توظيفُ شباب المسلمين "الفرنسيين" من قِبل الجهات الفاعلة دولياً في خدمة أجنداتٍ سياسيةٍ مشبوهة تخفى حتى على هؤلاء الشباب المتحمسين أنفسِهم. وأما الثاني فهو بلا شك غيابُ دولة المسلمين أي غياب دولةِ الخلافة التي كانت إلى عهد قريب تمنع الدولَ - كل الدول - من التعرض لأي شيء يتعلق بها أو برعاياها حيثما وُجدوا!!
تؤكد الحكومةُ الفرنسية على لسان رئيس "مؤسسة الإسلام الفرنسي" على أن الجمهورَ المستهدف من عمل هذه المؤسسة بالدرجة الأولى إنما هم المسلمون من الشباب الفرنسي، حيث صرح رئيسُها لدى تنصيبه قائلاً: "إن شريحةً (معتبرة) من الشباب هي الآن فاقدة للمرجعية، ربما تستهويها الأفكارُ الأصولية العنيفة. لذا ينبغي علينا أن نقدم لهؤلاء الشباب مرجعياتٍ أخرى، وسبلاً أخرى للنجاح"!
هذا ما تقوله الحكومة الفرنسية. ولكنَّ الحقيقةَ غيرُ ذلك، إذ يمكننا التعليقُ على هذه الخطوة من فرنسا، ويمكننا فهمُ حقيقة ما ستضطلع به المؤسسةُ المذكورة وفهمُ حقيقة ما تأمل الحكومةُ الفرنسية تحقيقَه من خلالها مما يلي:
1- وصلت جرأةُ فرنسا الكافرة والحاقدة على الأمة الإسلامية أن نصبت نفسها في مقام مَن يفسر الإسلامَ ويشرح أحكامَه وأفكارَه للمسلمين، بل في مكان مَن "يجدد" للأمة دينَها لكي ينسجم مع مفاهيم الغرب وحضارتِه السافلة والماجنة، وهو ما يعني هدمَ الإسلام على مستوى الفكر والمعتقد وضربَه في جذوره، أي تغييرَ مفاهيم المسلمين الأساسية وما يتفرع عنها في أذهان المسلمين خصوصاً من الشباب في فرنسا. وكفى بذلك خطورةً في العاجل والآجل على مسلمي فرنسا بل على مسلمي أوروبا عامةً سواء من المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم أو من غيرهم، حيث إن فرنسا تسعى إلى إسلام علماني فرنسي ينصهر في الجمهورية أي يكون مقصوراً على الناحية التعبدية والأخلاقية (كالبوذية مثلاً)، بحيث لا يكون له أي دور في الحياة العامة ولا في الشأن السياسي. وهيهات أن يتحقق لها ذلك، لأن طبيعةَ أحكام الشريعة وحقيقةَ الإسلام تمنع أن يتم حصرُه في هذه الزاوية.
2- واضح أن المستهدفَ في هذا العمل إنما هو هوية المسلمين وطراز عيشهم (خصوصاً الذين هم في الغرب)، حيث إن هذه العملية - التي يشرف عليها الفرنسيون أنفسُهم (ولو) بمساعدة معاونيهم من العملاء الفكريين والسياسيين حتى ممن يُعتبرون مسلمين في الغرب - تهدف إلى القضاء على التمايز بين الإسلام والكفر وإنهاء المفاصلة بين المسلمين والكفار، وذلك من أجل التعايش، بعيداً عن مسألة إحقاق الحق وإبطال الباطل التي هي قوام الإسلام. وهو ما يعني العيشَ في فضاءٍ ليس فيه ارتباط بالله عز وجل لا من حيث وجهة النظر في الحياة ولزوم التقيد بأحكام الشريعة والسعي لنيل رضوانه، ولا من حيث وجوب السير على منهج الله على مستوى الأمة وحمل الدعوة الإسلامية إلى الناس وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية. ذلك أن علمانيةَ فرنسا الاستعمارية تضرب أسسَ الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم، خاصةً مَن يستوطن منهم فرنسا، وتفرض في واقع الناس أفكاراً وقيماً وأذواقاً وسلوكاتٍ تغاير تماماً ما في الإسلام من حضارة وقيم ومفاهيم وأذواق، وهنا تكمن الخطورة على مَن يعيش من المسلمين في بلاد الغرب. ولكن هنا أيضاً تكمن بنظر الحكومات الغربية الخطورةُ على نمط الحياةِ في الغرب الآتيةُ ممن يريدون التمسكَ بالإسلام وهم يعيشون في الغرب!! إذ هاجس ساسة فرنسا الكافرة اليومَ هو ألا يشكل المسلمون فيها وجوداً يتناقض مع أسس وقيم الجمهورية وهم فرنسيو الجنسية، فصار لا بد من استباق الأمر بالعمل سريعاً على دمجهم تماماً في المجتمع الفرنسي بوصفه مجتمعاً علمانياً رأسمالياً. وهو ما يقتضي في حقيقة الأمر أن يترك المسلمون الإسلام، فهل يتحقق لفرنسا ذلك؟! نذكِّر في هذا الصدد أن فرنسا (الديمقراطية الزائفة) كانت مثلاً سباقةً من بين الدول الأوروبية في حظر عمل حزب التحرير الذي يحمل الإسلام حملاً سياسياً كما يلزم شرعاً، ويُظهره في وجهه الحقيقي لجميع الناس في الغرب كما في الشرق، الأمر الذي اصطدم ويصطدم مع مصالح ومآرب الدول الغربية بوصفها دولاً رأسماليةً استعماريةً عدوةً للإسلام والمسلمين بل للبشرية جمعاء. مع أن عمله وسعيَه لإقامة الخلافة يعتمد كلياً على الفكر والسياسة منذ أن نشأ قبل ما يربو على ستة عقود، إذ إن غايته هي استئنافُ الحياة الإسلامية بإعادة الدولة الإسلامية إلى الوجود من جديد، التي بدونها لن تتمكن الأمةُ الإسلامية من جمع شتاتها ولا من حمل رسالتها ولا من تحقيق معنى وجودها في الحياة.
3- أما على صعيد ما تأمل فرنسا تحقيقَه من خلال ضبط موارد ونفقات المساجد وتمويل دور العبادة وكذا تكييفِ وتوجيهِ خطاب الأئمة ودروس ومواعظ الخطباء فيها، فإن هذا العمل ولا شك يصب في نفس التوجه مع زيادة أنَّ من يقوم بالعمل هم المسلمون أنفسُهم عملياً وميدانياً من حيث التنفيذ، ولكن بتدبير بل بخبثٍ ومكرٍ من الحكومة الفرنسية، مع تبريره باستخدام النصوص وتفسيرها من طرف هؤلاء المسلمين من أبناء الجالية وغيرهم وفق ما تقرره على أعلى مستوى "مؤسسةُ الإسلام الفرنسي" الفرنسيةُ المنشأ والهوى. ومن ذلك على وجه التحديد منعُ الواعين سياسياً من المسلمين من الوصول إلى المنابر مثلاً. فهل وصل الأمرُ بالمسلمين إلى أن يضربوا أنفسَهم بأيديهم بتخطيط وتدبيرٍ من أعدائهم؟؟
4- يجب ألا نُغفل أن كل الدول الغربية (الأوروبية خاصة كألمانيا مثلاً) هي الآن تعمل، بخبثٍ ودهاءٍ، بشكل أو بآخر، مثلَ ما تعمل فرنسا تجاه الإسلام وأهله، بحسب علاقتها مع الأمة الإسلامية وواقع المسلمين فيها. كما أن للحكومات والأنظمة في دول شمال إفريقيا وغيرها (كمصر وتركيا مثلاً) دوراً مهماً بل أدواراً بحكم العمالة والتبعية من خلال السفارات بالتأطير والتكوين والتمويل والإمداد بالعملاء الفكريين وبالجواسيس والخطباء الموجَّهين عن بعد والعلماء المأجورين لا تقل أهميةً عما تضطلع به الدولُ الأوروبية والغربية عموماً وأجهزتُها ذاتـُها في إنفاذ ما تسعى إليه هذه الأخيرةُ بهدف احتواء الجالياتِ المسلمةِ عندها من خلال غمسها في مستنقع الرأسمالية المقيتة وبغرض طمس هويتها وتذويبها في المجتمعات العلمانية الأوروبية، بل وفي الدول الغربية الرأسمالية عموماً حتى في أمريكا وكندا وغيرها. كل ذلك تحت ذريعة محاربة التطرف والأصولية وبحجة تجفيف منابع (الإرهاب)، الذي لا يعني في قاموس الغرب المنافق سوى الإسلام!! كما أن للأحزاب المتناحرة سياسياً في البلدان الغربية كلها مآرب أيضاً في توظيف كل ما يتعلق بالإسلام وبالجاليات المسلمةِ الموجودة في دول الغرب بغرض تحقيق مكاسب سياسية خصوصاً في مواسم الانتخابات. ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النحل26].
بقلم: صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع