ظل الإسلام يتعرض، منذ بزوغ فجر الدعوة إليه في مكة المكرمة، وبعد قيام دولته في المدينة المنورة، إلى محاولات طمس نوره والحيلولة دون بلوغ ألقه إلى الحيارى المنتظرين سناه. إلا أن عظمة هذا الدين وقوة إيمان أهله به، واتخاذهم إجراء الحياة أو الموت حيال حتمية العيش به وحمله رسالة هدى إلى الناس كافة ونشره في أصقاع الدنيا، كان كل ذلك الصخرة التي تكسرت عليها خيانة المنافقين ومكر يهود في المدينة، بين أظهر المسلمين، وكذلك المحاولات العسكرية لدولتي الروم والفرس، لخنق هذه الدولة الفتية في حدود مجالها العربي، أو محاولات الصليبية أو الاجتياح المغولي لتحطيم هذه الدولة بل لاستئصال المسلمين استئصالا.
ظل النصر والظفر للمسلمين في سائر تلك الحروب إلا في بعض المعارك التي سرعان ما يستعيدون فيها المبادرة على أعدائهم، حتى طرأ على أذهان المسلمين ضعف في فهم الإسلام، حين فصلت لديهم طاقة اللغة العربية عن طاقة الإسلام، بإهمالهم أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه منذ أوائل القرن السابع الهجري، إلا أنه ومنذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري، استقر الرأي لدى الأوروبيين الاستعماريين على إبعاد الإسلام عن الحياة وفرض سلطانهم على المسلمين، وذلك بتحطيم دولتهم والقضاء على سلطانهم، فكان لهم ذلك بعد أن أعانهم على إفكهم بعض من خونة الترك والعرب. وهكذا بنيت العقيدة السياسية للغرب الكافر، على أساس عدم عودة الإسلام إلى سدة الحكم، وأصبحت تلك قضيته المصيرية التي اتخذ حيالها إجراء الحياة أو الموت، ويعينهم على بهتانهم حكام المسلمين قاطبة. وصارت كل قضايا المسلمين بأيدي أعداء الله ورسوله، حتى بلغ الأمر حد تعيينهم من يحكمنا وتنصيب من يرضونه من الطغاة علينا، ولا أدل على ذلك من أنه تتالى على سوريا أكثر من عشرين رئيس دولة منذ تولي محمد علي العابد في شهر أيلول 1936 إلى تاريخ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في 22 شباط 1971، لتتالي الانقلابات التي رتبتها بريطانيا وأمريكا.
إلا أن أمة الإسلام الكريمة، وهي تعتنق عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، طاوية عليها جوانحها لا تفرط فيها، ومحافظة على مشاعرها، تواقة إلى عزها ومجدها، مضطربة قلقة لواقعها، حائرة تبحث عن ذاتها، بدأت تنفض عنها لوثة الانبهار بهذا الغرب الكافر ومفاهيمه، والذي طال أمد هيمنته عليها. فلم تعد أفكاره ومفاهيمه تفتنها وتستهويها بل وضعتها موضع النقد والنظر، ثم صارت ترفضها وعادت إلى كنزها المكنون؛ كتاب الله وسنة رسوله الكريم ﷺ، تستقرؤه وتستنبؤه، فوجدت في ثلة من أبنائها هداة صادقين، حددت لأمتها زاوية النظر فبدأت الغشاوة تتقشع من حولها والرؤية تتبلور أمامها، فانتبه العدو إلى بوادر الصحوة في الأمة، فخفتت عوامل الصراع بين دوله على النفوذ في ديارنا وعلى المنافع في خيراتنا، وصار يدرك حجم الخطر الذي تمثله تباشير الصحوة لدى الأمة، والتي تشكل خطرا على القوى الاستعمارية وعلى نفوذها في بلادنا، فاتخذوا من وعي الأمة عدوا استراتيجيا تتحدد على أساسه مواقفهم وترسم على مقتضاه خطط حربهم على أمة الإسلام، بعد انكشاف إجرام هذا الغرب أمام أعين أبنائها وزوال سحره عن عقولهم.
ومما عمق الخوف لدى الغرب المستعمر من مارد الأمة الذي بدأ يستفيق من غفلته، وذهوله عن حقيقته، انفضاضُ الناس من حول أولئك النواطير الذين نصّبهم على رِقاب الناس، حتى بلغ يأسهم من حكام اليوم منتهاه وانقطع رجاؤهم منهم أمام الواقع الذي يمعسهم، والخيانات التي لا تخفى عن المتابع، مما أكره القوى الاستعمارية على الدفع بسفرائها وقناصلها ومنظماتها المدنية أن تتدخل في مفاصل الحكم والإدارة في بلادنا مباشرة، وإشرافها على أدق الأمور، فتعرّت أمام الناس ولم يعد عدوانها يخفى على أحد.
كل ذلك يأتي والأمة، قد أكرمها رب العرش العظيم بحزب تفجّر من صميمها، معبرا بكل جدارة عن خيريّتها، جلّى الغامض في حياتها وخط لها ثقافة أجابت عن حاجتها وهي تجابه خصوما شرسين ضالين مضلين، وعن حاجتها وهي تتطلع إلى استعادة دورها في الحياة وتتوثب لاقتعاد مركز الصدارة بين الأمم ولقيادة البشرية وإلى الخلاص من حيوانية الرأسمالية المتوحشة. فبين يديها دستور أُسس على عقيدة التوحيد واستنبطت أبوابه وفصوله ومواده من كتاب الله سبحانه ومن سنة رسوله ﷺ، عالج حاجات الإنسان في الدولة والمجتمع، وحدد مهام الدولة في أجهزتها المفصلة، فكانت حافزا فكريا يستجيب لانتظارات الإنسان، ومحركا لهمم المتصدرين لقضايا أمتهم، وعامل اطمئنان ورضا في الأمة واستعداد من قبلها للثقة والانقياد.
سمو هذه القوة الفكرية تضفي على الثروات، التي حبا المولى عز وجل بها الأمة، معنى حقيقيا فتعي معنى ملكيتها لها وقدرتها على التصرف فيها، وأنها عامل من عوامل قوتها وأنها رافد مهم في ظل دولة الخلافة، على الاضطلاع بمهمة حمل رسالة الخير إلى العالم، مع وجود تلك الطاقة البشرية المتحفزة لتحمل تبعة القيادة والتي قُدّت طيلة عقود القهر والظلم والمحاصرة، على عين بصيرة، لا يشغلها شاغل عن قضيتها أو يردها مكر عن إنفاذ أمر ربّها، مقتدية بالثلّة التي صحِبَت رسول الله ﷺ فآزرته لا تبغي غير رضا ربها. هي الطاقة البشرية نفسها التي تعي حقيقة الصلة بالله الخالق المدبر، فكانت الحاضنة للمبدأ المستعدة لبذل المهج بدون ثمن غير وجه الله العزيز الحميد.
قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
رأيك في الموضوع