السياسة هي أفكار تتعلق برعاية الشؤون، سواء أكانت قواعد: عقائد، أم أحكاماً، أم كانت أفعالاً تجري أو جرت أو ستجري، أم كانت أخباراً. فإذا كانت في أمر واقع كانت سياسة سواء في أمور حالية، أو أمور مستقبلية، وإن كانت قد مضى وقتها، أي كانت واقعاً مَرّ وفات، سواء مَرّ حديثاً أو قديماً كانت تاريخاً، ولذلك فإن التاريخ كان سياسة فأصبح تاريخاً. سواء أكان حقائق لا تتغير بتغير الظروف، وهو ما يجب أن يحرص على معرفته، أم كان حوادث في ظروف مرّت ومرّت ظروفه، وهو ما يجب أن لا يؤخذ، وأن يكون قارئه في حالة وعي عند قراءته حتى لا يأخذه في ظروف غير ظروفه، فيقع في خطأ، فيقع الضرر من أخذه.
والإنسان من حيث هو إنسان، أو الفرد من حيث كونه يعيش في هذه الحياة، هو سياسي يحب السياسة، ويعانيها، لأنه يرعى شؤون نفسه، أو شؤون من هو مسؤول عنهم، أو شؤون أمته أو شؤون مبدئه أو أفكاره. إلا أن الأفراد أو الكتل، أو الدول أو التكتلات الدولية، الذين يَتصّدوْن لرعاية شؤون أمتهم أو دولتهم، أو منطقتهم ودولهم، فإنهم يكونون سياسيين طبعاً من حيث كونهم من بني الإنسان، وطبيعياً من حيث طبيعة عملهم، وطبيعة عيشهم وسياستهم. ولذلك يكونون سياسيين بارزين، وهم الذين يطلق عليهم لفظ السياسي، ولا يطلق ذلك على الفرد العادي، لأنه محدود التفكير في أمر رعاية الشؤون ومحدود العمل في الحياة. والبحث في السياسة إنما يعني السياسيين هؤلاء، ولا يعني جميع الأفراد.
وقد عرف العلماء السياسة، بأنها فن الممكنات، أو فن الممكن. وهذا التعريف صحيح. إلا أنه من حيث ما جرى عليه الناس من حصرها في الأشياء الآنية، هو خطأ، لأنه يعني الواقعية بمعناها الخاطىء، وهو بحث الواقع والسير حسب هذا الواقع. ولو سُلِّم بهذا، لما وجد تاريخ، ولما وجدت حياة سياسية، لأن التاريخ هو تغيير الواقع، والحياة السياسية هي تحويل الوقائع الجارية إلى وقائع أخرى. ولذلك كان تعريف السياسة بأنها فن الممكن، تعريفاً خاطئاً حسب فهم الناس له، أو حسب فهم السياسيين. ولكن من حيث إن كلمة ممكن تعني المعنى الحقيقي لها، وهو ما يقابل المستحيل والواجب، فإنها صحيحة، لأن السياسة ليست فن المستحيل. بل هي فن الممكن فقط. فالأفكار التي لا تتعلق بالممكنات، أو على الأصح التي لا تتعلق بالوقائع الممكنة والواقع، فإنها ليست سياسة، وإنما هي فروض منطقية، أو مجرد خيالات حالمة أو تخيُّلات. فحتى تكون الأفكار أفكاراً سياسية، أي حتى تكون الأفكار سياسة فلا بد أن تتعلق بالممكن. لذلك كانت السياسة فن الممكن لا فن المستحيل.
فالمستحيل ليس سياسة، والواقع والواقعية هو كذلك ليس سياسة، لأنه ضد التاريخ. ولولا تَغيُّر الأشياء حسب الممكنات لما وجدت سياسة، ولما وجد تاريخ، فالتاريخ هو تغيير الواقع بواقع غيره، فالسياسة هي فعلاً فن الممكن مقابل المستحيل. والرسول e حين كان ينظر إلى السياسة بأنها فن الممكن لمعنى غير المستحيل، أوجد الإسلام مكان الشرك وكانت أفكار الإسلام وأحكامه هي التي تعالج مشاكل الناس ووُضِعت مكان أفكار الشرك وأفكار الكفر كله.
عن كتاب أفكار سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع