بعد بيعة العقبة الثانية، أصبح الأنصار يمثلون عددا لا بأس به في يثرب، وأصبح الجو العام فيها مهيأً لقبول الإسلام، قبلوا بأن يعطوا نصرتهم لرسول الله ﷺ، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم، بعد كل هذه الأمور العظيمة التي حدثت في فترة وجيزة جدا، جاء الأمر للرسول ﷺ بالهجرة إلى يثرب.
والرسول ﷺ لم يهاجر إلى المدينة خوفا على نفسه في مكة، ولا صونا لها من أذى قريش فما كان يحسب لذلك حسابا، بل كان همه وشغله الشاغل أن ينتقل في دعوته من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التطبيق العملي، فلا عبرة للأفكار النظرية مهما كانت خلّاقة ما لم توضع موضع التطبيق، وبعد أن أثبتت الأحداث والوقائع تجمّد المجتمع المكي في وجه الدعوة الإسلامية، كان لا بد من الهجرة إلى يثرب التي وفرت الأرضية الصالحة لانطلاقة الدعوة في دولتها، الدولة الإسلامية بعد أن احتضن جل أهلها الدين الجديد وانتشر الإسلام في كل دورها أو كاد، وتجسد هذا كله في بيعة العقبة الثانية التي بايع فيها قادة يثرب الرسول ﷺ على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ولهم الجنة.
وصل الرسول ﷺ إلى يثرب واستقبله الأنصار وأيديهم على مقابض سيوفهم لحمايته ودعوته، ليبدأ عهد جديد وحقبة جديدة، فأصبح المسلمون في منعة وعز بعد أن كانوا في ذل وهوان، فأصبحت لهم دولة، وشرع الرسول بتطبيق أحكام الإسلام ونظم أمور الدولة الفتية فجيّش الجيوش وحرس الثغور وعدل بين الناس، وطبق أفضل نظام رعاية على الرعية على اختلاف أديانهم وأجناسهم، كيف لا وهو نظام من رب العالمين الذي يعلم ما يصلح للناس وما لا يصلح لهم، فهو الذي خلقهم وهو أعلم بأحوالهم وأوضاعهم، فسعد الناس وصلحت أحوالهم وساد العدل والصلاح أمور حياتهم في كل جوانبها.
لقد كانت هجرة النبي ﷺ منعطفاً تاريخياً حاسماً غير مجرى التاريخ، ما جعل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يحدد بداية لتاريخ الدولة الإسلامية، أن يؤرخ بتاريخ الهجرة النبوية لما لها من أهمية، ولما فيها من الدروس والعبر، فهذه الذكرى بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد مراسم واحتفالات في أيام محددة، ومناسبة يستغلها النظام في تضليل المسلمين عن الدعوة الجدية التي تحملها وهي العمل لإعادة دولة الخلافة من جديد، بإعلانه تعطيل الدوام الرسمي وإقامة الاحتفالات، إبعاداً للمسلمين عن التأسي بأعظم شأن حدث لهم في تاريخهم، وهو إقامة الدولة الإسلامية الأولى التي كتبت أعظم الصفحات في تاريخ الحكم والتاريخ الإنساني وعزة ومجد الأمة الإسلامية مباهية به كل الأمم، وقد كان ﷺ بالإضافة إلى كونه نبياً مرسلاً، كان حاكما يطبق شرع ربه والنظام الذي ارتضاه لعباده.
وكان اجتماع هذه المقومات (الحاضنة الشعبية، وأهل القوة، وأصحاب المشروع السياسي) سببا لهجرة النبي ﷺ إليها وقيام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة. فالهجرة النبوية أسست أعظم دولة في التاريخ، بقيادة أعظم رجل في التاريخ، فأنشأت أرقى مجتمع في التاريخ، وأنشأت أعظم حضارة في التاريخ، وأقوى دول التاريخ.
وفي هذه الذكرى فإن حزب التحرير يستنهض هممكم للعمل معه لإقامة هذا الصرح العظيم؛ الخلافة مخلصة البشرية من الضنك في جميع نواحي الحياة والذي كان طبيعياً بعد زوال دولة الخلافة وتطبيق النظام الرأسمالي العلماني الذي أصبح المسلمون يُحكمون به.
فلتكن ذكرى الهجرة دافعاً لنا للعمل بأقصى طاقة وأن نغذ الخطا لإعادتها خلافة راشدة على منهاج النبوة. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع