لقد حملت حرب غزة الكثير من الدروس والعبر لأمة الإسلام وللعالم أجمع، حيث ضرب أهلها كباراً وصغاراً نماذج مشرفة في الصبر والتضحية والثبات على الدين والرضا بقضاء الله، جعلت العالم يتعجب من صبرهم وثباتهم وقوة وإيمانهم، ويبحث عن السبب وراء ذلك!
إنّ السبب يكمن في التربية الإيمانية التي نشأ عليها أطفال غزة منذ الصغر في حلقات تحفيظ القرآن، هذه التربية التي لا تُدْرس ولا تُدرّس في النظريات التربوية الغربية التي تنبثق من فكر مادي لا يؤمن بالعقيدة والناحية الروحية ودورها في خلق الشخصيات المتميزة، فالعقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من مفاهيم هي التي صنعت ولا تزال تصنع من أبناء المسلمين رجال دولة وقادة لأمتهم، فهي حين تتمكن من النفوس تجعلها تصنع المعجزات وتسطر المواقف العظيمة، فهي التي أخرجت شخصيات إسلامية متميزة ذات عقلية ونفسية إسلامية على مر تاريخ الأمة الإسلامية من أيام رسولنا الكريم ﷺ حتى يومنا هذا.
هذه المفاهيم هي التي توجد جيلاً يدرك رسالته في الحياة إدراكا واعيا مستنيرا، فهي التي جعلت أطفالاً صغاراً يتحدثون بما عجز عنه الرجال، وجعلت كلماتهم تتجاوز أعمارهم البريئة، فجعلتهم يتمنون الشهادة لما غرس في نفوسهم من مفاهيم عن الشهيد ومكانته في الإسلام وأنّ الدنيا دار عبور والآخرة هي دار القرار، وهي التي جعلتهم لا يخشون إلا الله موقنين بأن قوته وقدرته فوق قوة البشر وأنّه مَن كان الله معه منتصر لا محالة؛ فهذه طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها تجيب المحاور عندما سألها مطمئنا عن حالتها النفسية نتيجة الدمار والقصف فتجيبه بقولها: "لا نخشى جيشهم فالله أكبر منهم"! وأخرى تقول: "الله أقوى من 100 سلاح، وفلسطين سوف تنتصر، وخليهم يقـصفونا، وأرضنا مش رح نتخلى عنها. بنخاف بس مش حنطلع على سيناء"! وهي التي أنشأت أجيالاً تحمل همّ قضايا المسلمين وتدرك معنى التضحية في سبيل الدفاع عن بلاد المسلمين ومقدساتهم، ولذلك رأينا طفلاً يخرج من تحت ركام منزله مردداً كلمات: "أنا فِـداك يا قدس.. كلّه فداء للقدس". إنّ هذه المفاهيم الإيمانية هي التي جعلتنا نرى طفلاً يلقن أخاه الشهادة عند استشهاده...
وحتى لا نرى أمثال هذه النماذج المشرفة، وحتى لا تخرج هذه الأجيال التي تربت على أحكام الإسلام ومفاهيمه، فقد عملت الدول الاستعمارية ومؤسساتها على مدى عصور على إفساد هذه الأجيال وسلخها عن دينها وأمتها، تحت شعار (حقوق الطفل) وتطبيق الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأسرة والطفل، ولكن هذه الحرب قد أظهرت بشكل واضح كذب هذه الجهات وحقيقة نواياها الخبيثة، فهذه الدول ومؤسساتها المتآمرة قد تخلت عن أطفال غزة وتركتهم يواجهون جرائم هذا الكيان الجبان الذي يجعل منهم هدفاً لضرباته، بل إنّها دعمت هذا الكيان بالأسلحة التي يُقتل بها أطفال غزة...
لقد انتهك كيان يهود كل ما نص عليه القانون الإنساني الدولي، واتفاقيات حقوق الطفل وحمايته بما في ذلك في مناطق "الحروب والنزاعات المسلحة"، كما نصت على ذلك الاتفاقيات في هذا المجال كإعلان حقوق الطفل في عام 1959 الذي "يقر بحق جميع الأطفال في المأوى والرعاية الصحية والتعليم والغذاء الجيد والحماية من العنف"، واتفاقية حقوق الطفل عام 1989، واتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاها الإضافيان لعام 1977 اللذان نصا على سلسلة من القواعد التي تولي للأطفال حماية خاصة. وتتضمن اتفاقيات جنيف وبروتوكولاها الإضافيان ما لا يقل عن 25 مادة تشير إلى الأطفال تحديداً. ولكن هذه الدول والمنظمات لا يكاد يُسمع لهم رِكزٌ جراء ما يتعرض له أطفال غزة، بل هي تتعامل بازدواجية عالية تجاه ما يعانيه المدنيون ولا سيما النساء والأطفال في غزة، وبين ما تتعرض له النساء والأطفال في مناطق أخرى كأوكرانيا مثلاً، التي لم يصل الحال فيها إلى ما وصل إليه في غزة؛ فعدد الشهداء من الأطفال في غزة ضعف ما قُتل في أوكرانيا خلال عامين من النساء والأطفال، حيث وصل عدد الشهداء من الأطفال في غزة إلى أكثر من 10000 شهيد، عدا عن الجرحى والمفقودين.
لقد فقد أطفال غزة أبسط ما نصت عليه هذه الاتفاقيات من ضرورة حماية الأطفال في السلم والحرب وتوفير الغذاء والدواء لهم وعدم فصلهم عن ذويهم، فقد نزحوا من بيوتهم وتحولت مدارسهم وصفوفهم الدراسية لمراكز إيواء لهم ولعائلاتهم، وعانوا من الجوع والمرض نتيجة نقص الغذاء والدواء، والصور والفيديوهات التي تصلنا من غزة أبلغ من الكلام في وصف حال الأطفال هناك.
إنّ الجهود التي بُذلت على مدار سنوات لإفساد أبناء المسلمين وخلق أجيال مائعة منسلخة عن دينها وأمتها قد فشلت، والمواقف المشرفة لأطفال غزة خير دليل على ذلك، فمَن صنفتهم المواثيق الدولية على أنهم أطفال ومراهقون، قد صنعت منهم مفاهيمُ الإسلام رجالاً كما صنعت من أسلافهم، ومَن قدمتهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل كقدوات للأطفال والشباب كإحدى الوسائل لإفسادهم، جعل الله كيدهم في نحورهم فرأينا أبناء المسلمين قد أصبحوا مصدر إلهام وقدوة لهم ودفعوهم للبحث عن سر ثباتهم وإيمانهم، فكانوا سبباً في دخولهم الإسلام...
ونختم بأهم درس وعبرة علمنا إياها أهل غزة وأطفالها؛ بأن أمة الإسلام حية لا تموت، وبأنّ الخير موجود فيها ليوم الدين، وأنها قادرة على إنجاب أبطال كمحمد الفاتح وصلاح الدين... يقودونها نحو النصر والتمكين بإذن الله.
رأيك في الموضوع