اندلعت اشتباكات بين أطراف النزاع المسلح في جنوب السودان، بعد ساعات قليلة من اتفاق أديس أبابا، يوم الخميس 21/12/2017م، برعاية هيئة إيغاد الأفريقية؛ الاتفاق الذي تضمن وقف الاعتداءات وإطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين، وعدم التعرض لطواقم الإغاثة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والنساء والأطفال المخطوفين، والانخراط في مفاوضات مباشرة بشأن المرحلة الانتقالية. وكانت هذه الجولة من محادثات السلام قد وصفتها الأمم المتحدة "بالفرصة الأخيرة" لتحقيق السلام في البلاد. والجدير بالذكر أن دولة جنوب السودان انفصلت عن السودان عام 2011م، ولكن سرعان ما اندلع صراع على السلطة بين سلفاكير ونائبه السابق مشار أدى إلى حرب أهلية أواخر 2013م، وتم توقيع اتفاق سلام في 2015م، إلا أنه انهار في تموز/يوليو 2016م.
هذه هي حقيقة الأوضاع في هذه الدول القائمة في بلاد المسلمين، حكومات ضعيفة، لا تملك قراراتها، ولا تستطيع توفير أبسط مقومات الحياة لرعاياها... فما هي إلا دُمى تحركها الدول الاستعمارية لتحقيق مصالحها سواء أكانت في جنوب السودان أم في غيره.
إن الوضع المأساوي في الجنوب تبينه حالات القتل والجوع والنزوح،بسبب الحرب، حيث ذكر موقع سكاي نيوز يوم الأربعاء 29/11/2017م أن الحرب الأهلية في الجنوب قد أسفرت عن مقتل ما يزيد على 50 ألف شخص، وتشريد أكثر من مليونين. ونشر موقع الجزيرة نت نقلا عن رويترز في 8/12/2017م، أن هناك ما يقارب إلى 1,2 مليون جائع بجنوب السودان في زيادة تصل إلى ضعف عدد العام الماضي، أعلن عن هذا الرقم مارك لوكوك وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، يوم الجمعة 8/12/2017م خلال إلقائه بيانا عن تطورات الوضع في جنوب السودان أمام مجلس الأمن الدولي، ونزح أكثر من مليوني شخص من البلاد، في ما وصف بأنه أكبر أزمة لاجئين في القارة. لتكشف الأوضاع عن حكومة لئيمة ترقص على جثث الفقراء والجوعى من رعاياها حيث يقتلهم الجوع والمرض؛ فقد ذكر موقع سكاي نيوز عربية يوم السبت 11/11/2017م أن مراقبي عقوبات الأمم المتحدة قد أبلغوا مجلس الأمن حسب "رويترز" الجمعة 10/11/2017، أن حكومة رئيس جنوب السودان سيلفا كير تستخدم الغذاء سلاحا في الحرب لاستهداف المدنيين الذين تراهم الحكومة معارضين لسياساتها" وأسفر ذلك عن حالات سوء تغذية ووفيات موثقة نتيجة الجوع خاصة في منطقة باجاري الكبرى في واو، وأن 164 طفلا وشخصا مسنا توفوا من الجوع والمرض في الفترة بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر الماضيين). لتصبح بذلك أول دولة تعلن فيها المجاعة منذ ست سنوات، كما ذكرت البي بي سي في 20/11/2017م.
أما عن حالات الاعتداء على الأعراض واستغلال النساء فقد أصبح الوضع بالنسبة لنساء الجنوب كسجنٍ كبير للعقاب الجماعي تعاني فيه المرأة التنكيل والبطش والاستغلال من كل الأطراف، فقد ذكر موقع سكاي نيوز عربية، الأربعاء 29/11/2017م، أن دراسة أجريت على نساء وفتيات في جنوب السودان أوضحت أن ما يصل إلى 65% من النساء والفتيات اللواتي أُجريت معهنَّ مقابلات، تعرضن للعنف الجنسي أو البدني.
أما الأطفال فلم ينجوا من أخاديد العقاب الجماعي هذه التي صنعها الوضع الكارثي في الجنوب، فقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) يوم 25/12/2017م تقريراً يوضح أن ملايين الأطفال يعيشون في خضم مأساة جعلتهم ضحايا لسوء التغذية والأمراض، بينما يتعرض بعضهم للتجنيد القسري وللعنف، ويفقد الملايين منهم فرص التعليم الأساسي، وفي مخيّمات اللاجئين يمثل الأطفال ما نسبته 61 بالمئة بشكل إجمالي، في بلد ينخر الفساد أركانه من كل الاتجاهات حيث قال وزير الإعلام في دولة جنوب السودان مايكل مكوي لويث يوم الجمعة 23/6/2017م في ختام أعمال منتدى "الحكم الرشيد والديمقراطية"، الذي نظمته وزارة الشؤون البرلمانية في جوبا: "إن الشعب فقد الثقة في الحكومة بسبب فشلها في تلبية الاحتياجات الضرورية نتيجة فساد القادة السياسيين". حيث تخصص الحكومة أكثر من نصف مواردها المالية لمصاريف الجيش والتسليح والأمن والإدارة، مبقية الشيء القليل لرعاية الناس لتصل فيه مرتبات العمال وبعض الموظفين ما بين 10-30 دولاراً.
مع كل هذه الجرائم التي ترتكب في الجنوب إلا أن جريمة التدخلات الأجنبية هي أيضاً مأساة أخرى بحيث لا يمكن تجاوزها... فأمريكا هي اللاعب الأساس في الجنوب عبر عميلها سلفاكير المدعوم من نظام البشير في الشمال؛ نظام البشير الذي حقق لأمريكا كل أجندتها في المنطقة، بل قدم لها كل فروض الولاء والطاعة ليتحمل شمال السودان تبعات الحرب في جنوب السودان، وتكلفة النازحين مادياً واجتماعياً ومعنوياً، واستنزاف موارده وطاقات رجاله في توفير الأمن للجنوب، وقد كان هذا أحد الشروط التي وضعتها أمريكا لرفع الحظر الاقتصادي عن السودان؛ فيما سمي بالمسارات الخمسة. فأمريكا هي المتحكمة فعلياً في زمام الأمور في دولة الجنوب، وأكبر دليل على ذلك اعتراف الرئيس السوداني البشير في حوار مع موقع "سبوتنيك" نُشر يوم السبت 25/11/2017م حيث قال "إن الضغط والتآمر الأمريكي على السودان كبير، وإن قضيتي دارفور وجنوب السودان وجدتا الدعم والسند من أمريكا، وتحت ضغوطها انفصل جنوب السودان". إن أمريكا لم يكفها تمزيق البلاد، وإفقار أهلها، بل تريد مد دويلتها الفاشلة في الجنوب بكل أسباب الحياة.
أما بريطانيا فإنها تشاكس أمريكا عبر عميلها المخضرم رياك مشار لتنهب شيئا من خيرات هذا البلد الذي أصبح فريسة لمطامع هذه الدول الاستعمارية.
هذه الأحداث تؤكد أن الاستقرار الحقيقي للسودان لا يكون بتقسيمه، ولا بعمالة حكامه، بل بوحدته في ظل حكم الإسلام، بدولة تنظر إلى البلاد باعتبارها أمانة لا يجوز التفريط فيها، وتنظر إلى العباد باعتبارهم رعية؛ أصحاب حقوق يجب أن توفر لهم، والدولة الوحيدة التي تستطيع ذلك هي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ بنظامها التشريعي الفريد، نظام الله رب العالمين؛ الذي يحقق العدل والأمن ويوفر الحياة الكريمة للبشرية، أما هذه الأنظمة العميلة للمستعمر سواء أكانت في جنوب السودان أم في شماله؛ فإنها لا تستطيع ذلك لأنها أنظمة عميلة أثبتت فشلها، وأزكمت رائحة فسادها الأنوف، والحكام فيها لا يستطيعون أن يهشوا الذباب عن أنوفهم إلا بإذن أسيادهم في أوروبا أو أمريكا! قال تعالى: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾.
بقلم: محمد جامع (أبو أيمن)
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع