مع التطور التكنولوجي، وتوفر وسائل التواصل الإلكتروني، ازداد وعي الشعوب على الحقوق، وأدركت حقيقة النظام الرأسمالي، ووعت على الدور القذر الذي تلعبه الحكومات في مشاركة الرأسماليين، وأصحاب النفوذ في جريمة إفقار الشعوب بنهب ثرواتها. حيث بدا توصيف الفقر أكثر دقة، فأضيف مصطلح الفقر المدقع "وهي حالة الحرمان الشديد من الحاجات الأساسية".
فتعريف الأمم المتحدة في 1995م بحسب معيار البنك الدولي هم من "يعيشون بأقل من دولار في اليوم"، لكن البنك الدولي رفع السقف إلى 1.25 دولاراً في اليوم بالنظر إلى ارتفاع الأسعار في العديد من الدول النامية. كما أضيف مصطلح الفقر متعدد الأوجه (الأبعاد)، ويقصدون به وجهاً من وجوه احتياج الإنسان، كأن لا يستطيع الحصول على الماء النظيف، أو التعليم، مع توفر باقي احتياجاته، ويلاحظ ذلك في لبنان حيث انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وكذلك انعدام الدواء، وهو ما أشارت إليه الكثير من التقارير عن الحالة اللبنانية.
أما كيف تصنع الرأسمالية الفقر، فذلك لأن الاستعمار هو طريقة المبدأ الرأسمالي في نشر المبدأ، حيث تقوم الدول الكبرى باحتلال البلدان، وقهر شعوبها ونهب ثرواتها وخيراتها، وحرمان أهلها منها، وهذا ما عبر عنه جاك شيراك، الرئيس الفرنسي الأسبق قائلاً: "لولا ذهب أفريقيا لكانت فرنسا من دول العالم الثالث"، وهو ما ظل الرئيس الأمريكي السابق ترامب يردده: "يجب أن يدفعوا، وأن يدفعوا" في معرض حديثه عن حكام الخليج، وهو الشيء نفسه الذي فعله جو بايدن حينما أرسل وفداً إلى بلاد الحرمين ليضمن تدفق النفط إلى أمريكا وبالأسعار نفسها قبل بداية غزو روسيا لأوكرانيا.
ومن المفارقات المخلة بين الشمال الرأسمالي، والجنوب الأفقر على مستوى العالم بأن تكون النيجر هي الدولة الأفقر، والأكثر هشاشة في العالم، في الوقت الذي تمد فيه فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية، وتساهم بمقدار 75% من الطاقة الكهربائية لفرنسا، بينما يقبع شعب النيجر في الظلام الدامس!
أما كيف تقتل الرأسمالية الفقراء، فإن ذلك من صميم مبدئها، الذي عرف المشكلة الاقتصادية تعريفاً خاطئاً بأنها الندرة في السلع والخدمات مقابل حاجات الإنسان المتعددة، والتي عبرت عنها نظرية مالتوس للسكان في العام 1798م: "بأن عدد السكان يزداد بمتوالية هندسية بينما السلع والخدمات تزداد بمتوالية عددية، ما يستوجب العمل على تقليل سكان الأرض بالحروب ونشر الأوبئة والأمراض"، وهو ما عبر عنه كذلك الفيلسوف الأمريكي غاريت هاردن بـ"أخلاقيات قارب النجاة"، وملخصها أنه يجب إعطاء الحق في الحياة لمن لديهم فرصة أكبر في النجاة "العالم المتقدم"، والسماح بغرق الآخرين "العالم الثالث الفقير"، لذلك فإن الرأسمالية تصنع الفقر وتقتل الفقراء بمعاونة الحكام العملاء والخونة من موظفيهم الفاسدين، كتب غراهام هانكوك في العام 1994م كتابه الشهير "سادة الفقر" يقول فيه: "إن مليارات صناعة العون والإغاثة من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة مولت مشروعات عملاقة وبتكاليف باهظة، دمرت البيئة وحطمت الحياة، وساعدت أنظمة ديكتاتورية بشعة، بل وسهلت بيروقراطية بيزنطية، حشدت بطوابير من الموظفين الذين يلهثون وراء شهواتهم ونزواتهم، بل خلف طبقة من الطفيليين ذوي الامتيازات ومن المتسلطين... آن الأوان لسادة الفقر أن يذهبوا".
مما سبق نخلص إلى أن الدول الرأسمالية ومؤسساتها الاستعمارية، وسياساتها المالية والاقتصادية هي التي تصنع الفقر وتقتل الفقراء، ففي ظل الرأسمالية ازدادت نسبة الفقر إلى 9.1% عام 2020م، مقارنة بـ4.8% عام 2019م، حيث تجاوزت أعداد الفقراء 1.3 مليار شخص، وبسبب سياسات الإغلاق نتيجة جائحة كورونا سيضاف ما بين 143-163 مليون شخص إلى قائمة فقراء العالم بحسب تقارير الأمم المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2021م، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن زيادة الفقراء ستكون 580 مليون شخص.
إن التعريف الدقيق للفقر، وبالتالي إدراك المشكلة الاقتصادية، هو التعريف الذي جاء به الإسلام، حيث عرف الفقر بأنه عدم إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، وهي المأكل والملبس والمسكن لكل فرد من الأفراد، وتوفير الأمن والصحة والتعليم للجماعة، بحيث يستطيع جميع أفراد المجتمع التمتع والتمكن منها، وبالتالي فإن المشكلة الاقتصادية هي توزيع الثروة، وليس إيجادها وتكثيرها، بحيث نضمن لجميع الأفراد إشباع حاجاتهم الأساسية وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية. فقد أخرج أحمد بإسناد صححه أحمد شاكر من طريق عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: «كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ، وَجِلْفِ الْخُبْزِ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ»، وقوله r: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
غير أن الرأسمالية فوق صناعتها للفقر وقتل الفقراء، فإنها تزيد الغلاء بما يؤدي إلى إفقار أفراد جدد مقارنة بأحكام الإسلام الذي حرّم أسباب ارتفاع الأسعار، فكيف تتسبب الرأسمالية بسياساتها اغتيال الفقراء؟
أولاً: عبر ما يسمى بالخصخصة، وهي تحويل كل ثروات البلاد للملكيات الخاصة، أي تمكين أصحاب المال من امتلاك كل الثروات، وهذا يؤدي إلى حرمان الكثير من حيازتها والانتفاع بها، لعدم قدرتهم التنافسية، فيتغول أصحاب المال على الثروة، ومن ثم يعملون على تعظيم أرباحهم بزيادة الأسعار، بينما نجد الإسلام قد قسم الأموال بحسب طبيعتها، فجعل الملكيات ثلاثاً: ملكية الدولة، والملكية العامة، والملكية الفردية، بما يمكن جميع الأفراد من تملك الثروة والتمتع بها دون الإضرار بمصالح الجماعة.
ثانياً: العولمة الاقتصادية التي تعني حرية انتقال رأس المال والسلع والخدمات دون وضع قيود عليها، ما يعني انتقال التكتلات الاقتصادية الضخمة العابرة للقارات والمحيطات من الانتشار إلى حيث المواد الخام الرخيصة لتنشئ مصانعها وتستغل العمالة الرخيصة، وتنقل المنتج إلى الأسواق الكبرى دون قيد، بينما الإسلام يضع قيوداً للتجارة بين الدول ودخول رؤوس الأموال بما يجعل الكفة لصالح الأمة.
ثالثاً: الحيتان الرأسمالية تسعى للسيطرة والاحتكار عبر تركز الصناعة، بإدماج الشركات وابتلاع الصغيرة منها، لتصبح تجمعات كبيرة (الترست) لتتحكم في السلع والأسعار، بينما الإسلام يمنع الاحتكار.
رابعاً: الجمارك والضرائب (المكوس)، هي عمدة واردات الدول القائمة على المبدأ الرأسمالي، إذ تشكل حوالى 90% من الإيرادات، وهي بالطبع تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بينما يقول الإسلام: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ».
خامساً: القروض الربوية تأخذها الدولة من المؤسسات الربوية، وهي غير قابلة للسداد (دراسات جدوى ملفقة) ليست ذات جدوى اقتصادية، حيث تعجز الدولة عن السداد فتحصل المساومة بروشتات مهلكة كما هو الحال في السودان وفي غيرها.
سادساً: النقود الورقية الإلزامية، وربطها بالدولار، وهي من أخطر الأدوات لإذلال الشعوب وإفقارها، عبر استمرار الطباعة لسداد المرتبات والالتزامات الأخرى حيث تفقد العملة قيمتها وقوتها الشرائية، فتسرق مجهود الناس ومدخراتهم، بينما الإسلام قد جعل الذهب والفضة أساس النقد بما يحفظ حقوق الناس.
فدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة العائدة قريباً إن شاء الله ستقضي على الفقر وأسبابه، وتحمي الناس من جشع النظام الرأسمالي، وتضمن إشباع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد، وتمكينهم من حيازة الثروات من مصادرها مباشرة، التجارة والزراعة والصناعة والرعي والصيد وغيرها من أحكام تملك المال، ومن قصر عن ذلك لعذر، فدولة الخلافة تكفيه من واردات بيت المال، بأحكام شرعية تجعل دولة الخلافة بحق دولة بلا شحاذين، وقد كانت كذلك بشهادة المستشرقين، حيث كانت توضع أموال الصدقات على أبواب المساجد فلا يوجد من يأخذها، فسعد في ظلها المسلمون وغير المسلمين.
بقلم: الأستاذ ناصر رضا
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع