شرع الله سبحانه وتعالى الصوم، وشرف شهره بأن أنزل فيه القرآن، قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وفي رمضان أنزل اللـه صحف إبراهيم، وفيه أنزل التوراة، وفيه أنزل الزبور، وفيه أنزل الإنجيل، كما ورد في مسند الإمام أحمد. وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ولعل أهم ما في الصوم أن يدرك المسلم أنه إنما يقوم بهذا العمل، طاعة لله تعالى وتسليماً لأمره، فالإسلام طاعة لله تعالى وانقياد لأمره وتسليم بشرعه، وقد أخذت كلمة رمضان من رمض الصائم، يرمض إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء شدة الحر، فهي عبادة تقتضي الصبر على شدة الجوع والعطش تقربا إلى الله، فيرمض الذنوب، يقول eفيما يرويه عن ربه: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَاأَجْزِيبِهِ» حديث قدسي رواه البخاري في صحيحه؛ ذلك أن الصوم من الصبر، والصابرون يُوَفَّوْنَ أجورهم بغير حساب، كما في القرآن الكريم، وكان السلف يسمون شهر الصوم شهر الصبر، وهو شهر الوقاية من الذنوب: يقول الرسول e: «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَيَرْفُثْوَلاَيَصْخَبْ». رواه البخاري، جُنّة يعني وقاية.
وما أحسن ما اختصر ثعلب هذه المعاني فقال: "الإسلام باللسان والإيمان بالقلب، فلا بد أن يُظهر المسلم بلسانه الخضوع والقبول لما جاء به سيدنا محمد e، وأما الإيمان فهو أن يبطن المسلم من التصديق مثل ما يظهر". وإذ تعبدنا الله تعالى بقيام ليله حذَرَ الآخرةَ ورَجاءَ رحمةِ اللهِ ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، وقال e: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًاوَاحْتِسَابًاغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري، وإذا أمرنا الله تعالى بتلاوة القرآن حق تلاوته علامة على الإيمان به ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وإذا كان شهر رمضان شهر الصوم، وهو العبادة الخالصة لله تعالى التي لا يقصد منها إلا العبادة، والتي تميز حياة المسلمين في الليل والنهار، فإنه من باب أولى أن يكون ذلك دافعاً أكبر لطاعة الله تعالى فيما أمر. فإذا كان المسلم يقضي نهاره وليله متعبداً لله تعالى، أفلا يطيعه في كل ما أمر؟ كيف وقد جعله الرسول الكريم eوصحابته الكرام شهر الجهاد، والنصر والصبر، فيه تم النصر في بدر، وفيه تم فتح مكة، وفيه كان ينتصر المسلمون على مر التاريخ. وهو شهر تلاوة القرآن، وشهر إخراج الزكاة، وشهر عمارة المساجد، وشهر التوبة إلى اللـه، وشهر إصلاح ذات بين المسلمين، وشهر صلة الأرحام، وشهر الكرم والإحسان إلى المحتاجين، وشهر عفة اللسان والجوارح، وشهر تجديد الإيمان وتنقية القلوب، والقرآن الكريم إذ نزل في هذا الشهر الفضيل ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، فإنه أيضا نزل ليحكم ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، لذلك فلا بد أن تتخذ الأمة هذا الشهر حافزا لاجتماع كلمتها، وعملا لتحكيم شرعة ربها في حياتها، فتعود الأمة الإسلامية حاملة رسالة القرآن، فلا تكتفي بقراءته دون تطبيقه، ولا بتدبر آياته دون اتخاذ أحكامه حكما في الخصومات، ومرجعا في الأعمال، ومرتقى للتقرب إلى الله بالعيش تحت ظلالها حياة إسلامية.
حين نقرأ آيات القرآن في رمضان علينا أن نتوقف أمام قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ وقوله تعالى:﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ وقوله تعالى: ﴿...فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ وقوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ﴾. صدق اللـه العظيم.
أيها المسلمون: وأنتم تقرأون القرآن في هذا الشهر المبارك تفكروا في هذه الآيات. فالقرآن جاءنا لنتدبّر آياته، وليس أن نمر بها مرور الغافلين. الأمة الإسلامية رسالتها وواجبها أن تقود هي العالمَ لأنها هي التي تحمل الرسالة الإلهية. الأمة الإسلامية يجب عليها هي أولاً أن تنعتق من عبودية الكفار واستعمارهم لها. الأمة الإسلامية تستطيع ذلك إذا قررت أن تهجر الجبن والركون إلى الظالمين والكفار، والعودة إلى دين اللـه: الإسلام. الأمة الإسلامية تستطيع تنفيذ هذا القرار بإقامة خليفة واحد يَلُمُّ شملها، ويوحد صفها، ويحكمها بما أنزل اللـه.
رأيك في الموضوع