من المعلوم أن الحضارة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة، وهي خاصة تتبع وجهة النظر في الحياة وتحدد نمط العيش الذي تحياه الأمة أو الشعب (كالأفكار والعقائد والأحكام الشرعية)، بينما المدنية هي الأشكال المادية في الحياة فهي عامة لكل الأمم، وليست خاصة بأمة دون أمة، ما لم تكن متعلقة بوجهة النظر عن الحياة؛ فالعلوم والصناعات وما ينتج عنها كالقمر الصناعي والسيارة والموبايل والدواء والأدوات المادية هي عامة ليست مقتصرة على أمة معينة ولا على حضارة دون حضارة بل هي مشتركة بين جميع الأمم والشعوب... ولكن الملاحظ أن الدول القائمة على العقيدة الرأسمالية رغم أن الاستعمار هو طريقة نشرها للحضارة الغربية، إلا أنها أيضا عملت على نشر نتاجها المادي وربط طراز العيش القائم على وجهة النظر به، وجعل ذلك هو السائد عالمياً، والغاية من هذه العملية أمران:
الأول: ربط الدول الأخرى بالدول الغربية، لأجل الترويج لبضاعتها ومنتجاتها الصناعية، وسرقة اقتصاد الشعوب بالترويج للبضاعة الاستهلاكية حصراً.
والثاني: أن الترويج للمدنية الغربية عالمياً بمثابة الرمي التمهيدي للترويج لقيم الحضارة الغربية عالمياً، وخاصة في البلاد الإسلامية.
فالمدنية الغربية كانت مثل إبرة المخدر التي تعطى للمريض قبل العملية الجراحية، ثم وفي غرفة العمليات يفعل الطبيب بالمريض ما يشاء والمريض لا يشعر.
وكذلك فعلت الدول الغربية في البلاد الإسلامية، فبعد أن تخدّر كثير من المسلمين بالمدنية الغربية وصاروا مضبوعين بقيم الحضارة الغربية وطراز العيش الذي لم يعودوا يتصورونه بدونها، وأصبح الربط بين التقدم في الأشكال المدنية في الغرب ومفاهيم الحضارة الغربية ومنها الديمقراطية وفصل الدين عن الحياة والحريات والنفعية وغيره أمرا لازما، لأجل هذا كان على دولة الخلافة القائمة قريبا بإذن الله أن تسعى جاهدة للتخلص من شوائب المدنية الغربية وليس الحضارة فقط، وفي الوقت ذاته تسعى للترويج للمدنية المتعلقة بوجهة نظرها عن الحياة، لتكون هي السائدة.
فمثلا طراز البناء الغربي لا يراعي الستر ولا يراعي الفصل بين الرجال والنساء في الحياة الخاصة، لذلك يجب تغييره ونشر شكل البناء الإسلامي الذي يراعي هذه الأمور.
أيضا دولة الخلافة ستعيد استخدام معايير الأطوال والمساحات والأكيال والأوزان الإسلامية كلها من جديد، ليسهل تصور الأحكام الشرعية المتعلقة بها وتطبيقها، وتنبذ داخلياً الأمور المدنية الغربية طالما هناك بديل إسلامي، وتحاول الترويج لهذه المدنية الإسلامية عالمياً، فتعيد مثلا القياس بالجريب والقصبة والقفيز للمساحات الزراعية، وتعيد الإصبع والقبضة والذراع والباع والميل والفرسخ والبريد للأطوال، وتعيد المد والصاع والوسق للمكيال...
صحيح أن الكيلو والمتر واللتر مقاييس عالمية، ولكن الأولى بدولة الخلافة أن تكون مدنيتها المتعلقة بالأحكام الشرعية هي السائدة، خاصة وأن التكنولوجيا الحديثة سهلت الأمور فيمكن العودة لهذه المدنية بسهولة وسلاسة عبر إنتاج موازين إلكترونية.
وعلى فقهاء وعلماء دولة الخلافة أن يضبطوا المدنية المتعلقة بوجهة النظر الإسلامية في شتى نواحي الحياة، ولا يكتفوا بإنتاجها فقط، وعلى الخلافة جعل هذه الأشكال المدنية هي السائدة داخلياً لأن ذلك جزء من تطبيق الإسلام ورعاية الشؤون بأحكام الشرع، كما تسعى دولة الخلافة لنشر ذلك عالمياً كوسيلة من وسائل الدعوة، بحيث تنجذب قلوب الشعوب لطراز العيش الإسلامي، تمهيداً لدخولهم في دين الله أفواجاً عبر الفتوحات وحمل الدعوة.
بقلم: الأستاذ معاوية عبد الوهاب
رأيك في الموضوع