لا يشك أحد اليوم أن المقصود بالحرب على الإرهاب هو الحرب على الإسلام. والمقصود تحديداً هو ما يسمونه "الإسلام السياسي"، أي الأفكار أو الأحكام الشرعية المتعلقة بالدولة الإسلامية ووجوبها، وبوحدة الأمة وبكيفية رعاية الشؤون الداخلية في الاقتصاد والاجتماع... والخارجية كالتجارة الخارجية والجهاد والمعاهدات...
ومثل ذلك تعبير "الإسلام المعتدل" أو "الإسلام الوسطي"، فقد صار مكشوفاً لعوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم ومثقفيهم، أنه عنوان على تحريف أحكام الإسلام التي تقف عائقاً دون قبول المسلمين لمفاهيم وقِيَم الكفر الغربية. وقد كان تعبير "الإسلام الأمريكي" أدق منه في الدلالة على المقصود. وإذا قيَّد دعاة هذه الأفكار الإسلامَ بقيد "المعتدل"، فقد قيّدته جماهير المسلمين بـ"الأمريكي"، وأضافوا إلى ذلك أن قيَّدوا وصف المشايخ المروجين لهذه الأفكار الغربية بأنهم "علماء السلاطين".
وإنه لمما يثير التساؤل، كيف يتجرأ (علماء) على هذه المخاطرة. فواقع الحال أنهم يردون على الله سبحانه وتعالى قوله: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ فيقولون: بل الإسلام المعتدل. فيُقيدون الإسلام بوصفٍ من خارجه. فكان حالهم كالذي يقال له نريد تطبيق الإسلام، فيقول: بشرط أن يكون مناسباً! فهل هي جرأةٌ أم أنها من عمى القلوب! وما أشبه الأمر بقول الشيخ يوسف القرضاوي "إن الحرية مقدمةٌ على تطبيق الشريعة"! وبما هو أشنع منه وهو قول أحمد حسون مفتي نظام بشار الأسد: "لو طلبَ مني النبيمحمد أن أكفربالمسيحية واليهودية لكفرتبمحمد". والعياذ بالله.
لقد بدأت أمريكا استعمال تعبير "الحرب على الإرهاب" في سبعينات القرن الماضي لأغراض سياسية، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتزايد وعي الأمة على الإسلام، رأت أن تتخذ الإسلام عدواً، ورسمت لذلك خططاً. فازداد وعي الأمة على دينها، وازداد الغرب انكشافاً وعلى رأسه أمريكا. فزادت أمريكا محاربتها للإسلام، وتبعها الغرب ودول العالم في ذلك. وبرز التناقض بين الإسلام والغرب بشكل واضح وحاد. وشعر الغرب بخطر توجه المسلمين نحو انعتاقهم من هيمنتهم ونحو الخلافة، فانتفض ليتخذ محاربة الإسلام استراتيجية وفي رأس سلم الأولويات، وليس مجرد هدف على هامش توجهه السياسي. ولكن التخطيط اقتضى أن يقولوا محاربة الإرهاب وليس محاربة الإسلام.
ولا يزال يزداد توظيف تعابير "الحرب على الإرهاب" و"مواجهة الإرهاب والتطرف" بشكل لم يسبق له مثيل، وتُعقد لأجل ذلك مؤتمرات ولقاءات على أعلى المستويات في كل أنحاء العالم. ولقد زاد الأمر عن حده حتى صار محل تندُّر وسخرية، وبدأ يفقد فاعليته. وكما يُقال: "إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده".
الحرب على الإسلام اليوم استراتيجية أمريكية، وتسعى أمريكا لجعلها استراتيجية عالمية ولتقود العالم فيها. وفي هذه الاستراتيجية خطط، منها عدم إعلان الحرب على الإسلام بل زعم احترامه وتقديره، وأن الحرب إنما هي على الإرهاب والتطرف. لذلك يقولون إن للإسلام نسختين؛ نسخة حقيقية هي الإسلام المعتدل ونسخة مزيفة هي الإسلام المتطرف. ونلمس أهمية هذا الأمر عندهم في حجم أكاذيبهم. فأوباما مثلاً يقول: "إن الإسلام جزء لا يتجزأ من أمريكا"، و"الشراكة بين أمريكا والإسلام يجب أن تستند إلى حقيقة الإسلام وليس إلى ما هو غير إسلامي". وبوتين يقول: "الإسلام ديانة عظيمة" و"الإسلام جزء من تاريخ روسيا". وكلاهما يقول إنه لا يحارب الإسلام ولن يكون في حرب معه، وإنما هو يحارب الإرهاب الذي يقتل المسلمين أيضاً. وكأنَّ سفكهم لدماء المسلمين، وتآمرهم في ذلك خافٍ على أحد. ومثل ذلك يقال عن حكام أوروبا. فما هو هذا الإسلام المعتدل الذي يدعو إليه أوباما وغيره من حكام العالم وحكام بلاد المسلمين، وأدواتهم من المفتين و(علماء) الفضائيات ومشايخ البلاط؟
لم يكن ما تسميه أمريكا "الإسلام المعتدل" إلا الأفكار الغربية في أن التشريع للناس وليس لله، ولا شأن للإسلام بشؤون الحياة، فما لقيصر لقيصر، وكذلك الأمر في الحكم والاقتصاد والاجتماع؛ في الربا ونهب الثروات، وفي الزنا وسائر ما يسمونه حريات عامة... باختصار: الإسلام المعتدل أو الوسطي هو مفاهيم الكفر الغربية التي انكشفت وسقطت في معركة الأفكار التي ربحها الإسلام. ربحها الإسلام الحقيقي الذي أطلقت عليه أمريكا اسم الإرهاب والتطرف. وقد تجلى ذلك في رجوع الأمة إلى دينها وإدراكها أنه لا بد للإسلام من سلطة تنفيذية تطبقه وتوحد أمته وتحمل دعوته. فلم يكن لأمريكا - والغرب من ورائها - بدٌ من أن تخوض هذه المعركة بكل طاقاتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية... وكان من ذلك التركيز على غزو العالم الإسلامي كله، لإزالة هذه الأفكار السياسية حول الخلافة والأمة وتطبيق الإسلام... ولتربية أجيال المسلمين وترويضهم على مفاهيم الغرب وقيمه. وهكذا أخذ عنوانُ "الإسلام المعتدل" وتجَّارُه دوراً أكبر في الإعلام وعلى المنصات والمنابر وفي المؤتمرات.
تدرجت الأوامر من أمريكا إلى عملائها فأجهزتهم الأمنية والإعلامية والتعليمية و(علمائهم) ودور الفتوى التابعة لهم، وسائر الهيئات (العلمائية) والروابط والمنظمات، كهيئة كبار العلماء ورابطة العالم الإسلامي ومنظمة التعاون الإسلامي... للترويج للإسلام المعتدل ضد الإسلام الذي تسميه الإرهاب والتطرف. ولذلك صارت تزدحم وتتسابق اليوم هذه المؤسسات والهيئات (الإسلامية) وغير الإسلامية في عقد لقاءات ملَّها المتابع، موضوعها الإرهاب والتطرف.
إن أطروحة "الإسلام المعتدل" خدعة وجريمة، فهي خطة من خطط الاستراتيجية الأمريكية الشيطانية "محاربة الإسلام". والذين يسيرون فيها يخدمون الكفر بسيرهم في خطة تضليل الناس لينبذوا الإسلام، وليأخذوا الكفر بعد تسميته إسلاماً. وما أشبه فعائلهم هذه بفعائل أولئك الذين حرّفوا ما أنزل الله على النبيين من قبل. قالت لهم أمريكا إذا نص الإسلام على الديمقراطية والحريات فسترضى بذلك، أما إذا قال بحاكمية الشرع وبالخلافة على منهاج النبوة والجهاد فستغضب وتحاربهم، فانصاعوا كالمحرفين الذين سبقوهم والعياذ بالله. قال تعالى: ﴿يُحرِّفون الكلِمَ من بعدِ مواضِعه يقولون إن أوتيتُم هذا فخذوه وإنْ لم تُؤتَوْه فاحذروا ومن يُردِ الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يُردِ الله أن يُطهِّر قلوبَهم لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ﴾. [المائدة: 41].
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع