يجري الحديث كثيرا عن الدولة العظمى وما هي المقومات التي يجب أن توفرها الدولة لنفسها لتصبح دولة عظمى. فجميع الدول المستقلة في العالم تطمح وتسعى لأن تصبح دولا عظمى، وجميع الدول العظمى في العالم تسعى لأن تبقى وتستمر دولا عظمى في العالم، فصفة العظمة للدولة تعني السيادة أو محاولة السيادة، والقيادة أو محاولة القيادة لهذا العالم. فالدولة العظمى تشبه إلى حد بعيد ذلك التاجر الكبير ذا الطموحات الكبيرة والأهداف البعيدة، التاجر الذي يسعى لأن تغزو تجارته كل بلد ومدينة وحي وبيت. نعم هذه هي الدولة العظمى، هي تلك التي تسير سياساتها الداخلية والخارجية من أجل التوسع والتمدد والتدخل في شؤون الآخرين لتضمن العظمة والسيادة لفكرها وشعبها على باقي الشعوب والبلدان.
ومن أهم المقومات التي يجب توفرها في الدولة العظمى ابتداء هي أن تكون لها رسالة وتريد نقلها للعالم. ولذا فإن الدولة التي ليس لديها فكر هي كالتاجر الذي ليس لديه بضاعة فهو تاجر فاشل. والدولة التي تقتصر أفكارها ومبادؤها على شعبها وحسب،كذلك التاجر الذي يتاجر في بلده فقط ويقتصر نشاطه هناك، فهو تاجر ولكن ليس بتاجر عظيم، بل هو ضعيف الهمة.
ولا بد أن تكون هذه الدولة دولة مستقلة في قرارها السياسي. فلا يمكن الحديث عن عظمة الدولة في حين أنها غير مستقلة أي تابعة في سياستها الداخلية والخارجية على السواء لدولة أخرى. فكيف يمكن أن يكون التاجر عظيما وهو لا يقوى على إنتاج بضائعه بنفسه؟ ويحمي تجارته وقوافله ومتاجره وصناعته وعماله بسلاح غيره؟ ويرهن تجارته ومخططاته التجارية بيد غيره من التجار؟ ومن يفعل ذلك فهو تاجر صغير لا يرقى أن يكون عظيما بين التجار. بل هو تاجر غشيم لا يأمن الناس على تجارتهم معه.
ولذا فإن من أهم الأمور الأساسية للدولة لكي تصبح دولة عظيمة هي أن تكون دولة مستقلة في قرارها السياسي الداخلي والخارجي وتمتلك رسالة وتريد نقلها للعالم. إذا توفرت هذه العوامل في أي دولة فإنها ستكون دولة عظيمة بلا شك لأنها ستسعى دائما لمحاولة القيادة والسيادة؛ تغلب فكرتها فوق الأفكار وشعبها فوق الشعوب وقيمها فوق القيم الأخرى في العالم، تماما كالتاجر العظيم الذي يسعى أن تسود تجارته وبضاعته فوق كل البضائع ويسعى لنشر ممثليه التجاريين في كل دول العالم. وما أن تصبح الدولة دولة عظيمة حتى يحسب لها حساب دولي، كيف لا وهي التي تستطيع التأثير على أمن العالم وحالة السلم والحرب فيه، هذا ناهيك عن اقتصاده ونموه وتطوره..
والدول العظيمة تتفاوت في عظمتها. ففي عالمنا اليوم تعتبر الدول التي تملك عضوية دائمة فيما يدعى زورا بمجلس الأمن هي الدول العظمى في العالم وهي الدول الخمس. وإن كانت هذه الدول تتفاوت في عظمتها وثقلها في العالم، إلا أنها جميعها دول عظمى. فأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين هي دول عظمى تتفاوت درجة عظمتها. فأمريكا ما زالت هي الأقوى والأقدر على قيادة العالم، وتحاول باقي الدول الأربع التأثير على قراراتها مرة بموادعتها ومرة بمواجهتها حتى تتمكن من أن تظهر عظمتها ودورها وتتمكن أكثر من ترويج نفسها في العالم على حساب أمريكا. فهذه الدول تتصرف على أساس العظمة ولا ترضى بالقليل وتعلم أن الجميع في هذا النادي يسعون دائبين إلى الهدف نفسه، ولذا تقتنص الفرص وتستشعر نقاط الضعف والقوة لدى أمريكا في إدارة الأزمات فهي تقدم وتحجم في التأثير على تصرفات أمريكا في العالم ليكون لها صوت وقسمة أفضل وحظ أوفر.
وإن روسيا وسلوكها في هذا النهج في الخمس عشرة سنة الماضية قد يري هذه النقطة بوضوح. فموقف الروس إبان احتلال العراق ووقوفهم بشدة مع الصين وبريطانيا وفرنسا أمام توجهات أمريكا في تلك الأزمة يختلف تماما عن موقف الروس بالنسبة للملف السوري إلى جانب أمريكا وتوجهاتها. وأما الأزمة الأوكرانية فقد أظهرت بصورة واضحة قوة روسيا في إدارتها للأزمة. وبذلك يرى المتابع لروسيا وأدائها في العقدين الأخيرين أنها تسعى إلى المحاولة أكثر للتأثير على قرارات أمريكا سواء بالوقوف معها أو ضدها في عرقلة بعض مشاريعها.
لقد سارع الروس بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي إلى لملمة ما يمكن لملمته من الاقتصاد الروسي والصناعة الروسية والتخلص من بعض العوامل التي استنزفت روسيا واستقلالها واقتصادها. ولقد سارعت روسيا إلى تبني مبدأ الغرب في السياسة، المبدأ الرأسمالي (لغة العصر الآن) وحاولوا صياغته إلى قدر ما في الحياة السياسية وإن كان لم يتغلغل بعد كثيرا في جهاز المخابرات الروسي، ولم يتحول المبدأ الرأسمالي في روسيا إلى فكرة تحملها الدولة وتسعى لتطبيقها في مناطق أخرى.. فروسيا، والحال كذلك، تفتقد إلى صفة مهمة من مواصفات الدولة العظمى.
ولقد استعاد الروس بعض السيطرة والنفوذ في دول الاتحاد السوفييتي السابق التي زاحمتهم عليها أمريكا بعد هدم الاتحاد السوفييتي. وشكلوا منظومة أمنية مع الصين وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابق للوقوف ضد توجهات أمريكا في المنطقة هناك. ويدير الروس الأزمة الأوكرانية بحنكة وبشكل لائق بدولة عظمى انتُهكت مناطقها الحيوية. وها هم الروس يتحركون خارج نطاق حدودهم في الشرق الأوسط في صفقات مع أمريكا في سوريا وضد توجهات أوروبا. إلا أنهم ما زالوا يتحركون خارج إقليمهم بصورة غير مستقلة تماما بل بتحالفات مع أمريكا مما يحد من عظمتهم دوليا.
ولن تصبح الأمة الإسلامية أمة عظيمة لمجرد وجود رسالة الإسلام بين أفرادها فقط، بل لا بد أن تسعى الأمة الإسلامية إلى أن تكون لها دولة مستقلة عن سياسات الغرب لحمل هذا الإسلام للعالم بأسره. فنحن أمة خلقت للسيادة والقيادة ولكن برسالة عظيمة ألا وهي الإسلام.
بقلم: د. فرج ممدوح
رأيك في الموضوع