تقدم جريدة الراية فيما يلي ملخص البحث الثاني بإيجاز كما قدمه الأستاذ محمود عبد الكريم:
تعرضت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه بلاد المسلمين في النصف الأول من سنة 2013، أي بعد بداية فترة حكم أوباما الثانية، لإعادة النظر والتعديل. ومع نهاية حزيران 2013 كان ذلك واضحاً من خلال أعمال جسيمة على الأرض. وفيما يلي ملخص تلك الاستراتيجية وتطورها وتعديلها خلال تلك الفترة:
1- أدركت أمريكا بعد فشلها في هجمتها على العالم الإسلامي التي أعلنها بوش الابن أواخر العام 2001 أن الإسلام هو الذي يواجهها ويكشفها ويُفشلها، وأنه يحتوي أفكاراً تجعل أمريكا بنظر كل المسلمين عدواً لهم، وثقافةً تتناقض مع ثقافة أمريكا وقِيَمِها. وتبيَّن لها أن أفكار المسلمين وثقافتهم وأعرافهم ومجتمعاتهم تأبى الخضوع لأمريكا، وتأبى احتلالها بلادَهم،وتأبى التسليم لها بالقيادة، بل هي تتناقض معها وتهددها. وأدركت أيضاً أنها خسرت حرب الأفكار مع الإسلام. وبهذا تكون قد خسرت حرب الأفكار وفشلت في الحرب العسكرية. وهذا يقتضي استراتيجية جديدة.
2- رأت أمريكا أن تخوض الحرب مع المسلمين على الصعيدين؛ العسكري المادي، والفكري. وتجدر الإشارة هنا أن الحرب الفكرية لا تعتمد عند أمريكا والغرب على إثبات الأفكار المتعلقة بالعقيدة والتشريع ونظم العيش بالأدلة والبراهين، فهم لا يؤمنون بوجود حقائق في هذه المسائل، وإنما هي نسبية تتبع الأذواق والميول، ومتطورةتتبع الوسائل والمصالح. ولكنهم يعتمدون بدلاً من ذلك على الترويض أو ما يفرضه الأقوى، أو على أهواء الأكثرية، وعلى الخداع وشراء الذمم.
3- رأت أمريكا أن تُقَلِّل قدر الإمكان من مواجهة المسلمين لها في هذه الحرب على كلا الصعيدين؛ العسكري والفكري، وبهذا تُقَلِّل من قوة عدوها وتضعفه أمامها. لذلك جاء توجهها علنياً ومخادعاً وصفيقاً بأنها ستخوض الحرب ضد عدوها بشكل قوي جداً ولا هوادة فيه أبداً، وستستأصله. والمخادعة هنا هي أن عدوها هو الإرهاب والتطرف العنيف وليس الإسلام ولا المسلمون. أما الإسلام فادَّعت أنها تحترمه وتحترم إسهاماته الحضارية. لذلك كرر أوباما أقواله بأن هناك نسختين للإسلام؛ نسخة نمطية تتطلع للوراء وتقوم على الكراهية والإرهاب، وهذه ليست من الإسلام ويجب إزالتها والقضاء عليها وعلى أهلها. ونسخة أخرى تتقبل الديمقراطية وحقوق الإنسانوالقيم الغربية الأمريكية، وهذه النسخةادَّعى أوباما أنها جزءٌ من أمريكا، ودعا لتشجيعها وإعطائها الفرصة لتحل محل الإسلام الذي لا ينسجم مع القيمِ الأمريكية، ولتشارك في الحرب على النسخة النمطية الإرهابية. هذه النسخة هي التي أُطلق عليها اسم الإسلام المعتدل أو الوسطي، وأَطلق عليها البعض اسم الإسلام الأمريكي.
4-يقتضي المذكور أعلاه إجراءاتٍ عمليةً على الأرض على عدة صعد؛ تشريعية وأمنية وإعلامية وتعليمية، ويقتضي التدخل في أئمة المساجد وخطبهم، وفي تعيين المفتين والمدرسين... وفي إعادة صياغة مناهج التدريس الديني... وقد كان هذا من صلب هذه الاستراتيجية.
5- يترافق مع الإجراءات السابقة إجراءاتٌ أخرى على صعيد إنشاء هيئات ومؤسسات علمانية متعددة، كجمعيات إعانة الفقراء أو اللاجئين، أوالمرضى، أو التعليم والتدريب المهني، أو مؤسسات اجتماعية تتعلق بحاجات العاجزين والمعاقين وبالأم والطفل، أو مؤسسات حقوقية تنشط في قضايا حقوق الإنسان والمرأة، أو تطوير المؤسسات والحَوْكَمة ومحاسبة المسؤولين، أو التحول الديمقراطي... ويُختصر ذلك بإنشاء مؤسسات مجتمع مدني كثيرة يديرها علمانيون عملاء لأمريكا، وكلما كانوا أبعد عن الالتزام بالإسلام أو أعداء له كلما كان ذلك أفضل.
6- وتضمنت استراتيجية الولايات المتحدة ما تسميه المشاركة، وهي إشراك الآخرين معها ليقوموا بما يحقق أهدافها، وأحياناً ليقوموا بذلك وحدهم نيابةً عنها، سواء في حروب ضرب "الإرهاب"، كجعل الجيش الأفغاني والباكستاني وسائر جيوش المسلمين وأجهزتهم الأمنية تحارب (الإرهاب) وتنشغل به وتخصص له الميزانيات، وكاعتمادها الكبير في هذه الحروب على ما تسميه "التحالف". أو في عملياتالتضليل وتلويث مجتمعات المسلمين بالأفكار والقيم الغربية،وتقتضي هذه العملية تشريعات وسياسة معينة في التعيينات، وإجراءات في الإعلام والتعليم وحيثما يمكن ذلك. ويجدر بالذكر أن هذا التوجه المسمى مشاركة مرتبط بأمرين: أولهما إخفاء الوجه البشع لأمريكا، وتحسين صورتها أمام المسلمين والعالم، وثانيهما التخفيف من التكاليف الضخمة التي تتكبدها في حروبها، وبخاصة أن أوباما قد جاء للحكم في فترة أزمة مالية ضخمة أصابت أمريكا والعالم.
7- حلمت أمريكا مع بداية الثورات بوهم أن تقود تحولاً ديمقراطياً في المنطقة. ولكنها فشلت في أن تسوقَ الناس إلى ذلك، وبخاصةٍ في سوريا، ولم تسعفها فيه الحيلة ولا الدبلوماسية. وأدركت أن الذي أفشلَها هو عدو لا تستطيع مجابهته، لأنه ليس جيشاً، ويكاد يكون شبحاً. إنه الإسلام، إنه الفكر الإسلامي السياسي الحقيقي. إنه حَراكُ أمة بأكملها تلخصه كلمة "الخلافة". وقد صار يطلُّ لأمريكا كشبح مخيف حيثما حلَّت. وهي عاجزةٌ حياله، لأنه لا يَسقط بنيرانها وأسلحتها ولا ينهزم، بل يزداد قوة. وهي عاجزة أيضاً أمام وعي الأمة المتصاعد، وتجد أنها لا تملك شيئاً سوى التدمير والقتل. بكلمة مختصرة: هذا فكر ينطلقُ من مَعينِ عقيدة، مواجهته لا تكون إلا فكرية، وهو بالفكر ينتصر ولا ينهزم، هذا قضاء وقدر، وهذا بنظر أمريكا هو الإرهاب بعينه. لذلك وجدت أمريكا أن ما سمَّته الإرهاب والتطرف أقوى مما توقعت. ولذلك جعلت النصيب الأكبر من استراتيجيتها المعدَّلة، للحرب العسكرية التدميرية على حساب التقارب مع الإسلام المعتدل. فيكون التعديل الذي طرأ على استراتيجية أمريكا ليس فقط استبعاد عملائها من الإسلاميين المعتدلين، وإنما أيضاً زيادة استعمال القوة العسكرية، وتوسيع عمليات القصف والإبادة والتهجير للمسلمين الرافضين لأمريكا وديمقراطيتها ونُظُمِها في سوريا، وكذلك زيادة الملاحقة والقمع في كل مكان، لأصحاب التوجه الإسلامي السياسي والفكري.
8- شكل انتشار فكرة الخلافة في العالم الإسلامي وفي سوريا خطراً على أمريكا وعلى الغرب الأوروبي وعلى روسيا، وكذلك على الحكام العملاء كحكام الخليج وإيران وتركيا... فهو ينذر بسقوطهم جميعاً، ويقطع دابر أمريكا والاستعمار كله من المنطقة، ويشكل بداية النهاية لروسيا الحاقدة على الإسلام والمسلمين. لقد أدى خوف هؤلاء جميعاً وعلى رأسهم روسيا ثم أوروبا ثم أمريكا ثم الآخرون، ورعبهم من الخلافة إلى أن يَتَنادَوْا جميعاً لمواجهة هذا الخطر الذي لا علاج له عندهم سوى القتل والإبادة والتهجير، وفنون التعذيب والتيئيس... وهم يأملون بذلك أن يستسلم أهل الشام، وتنتهي ثورة سوريا.
9- رفعت أمريكا خلال النصف الأول من العام 2013 كثيراً وتيرة العنف والتوحش في العديد من بلاد المسلمين وبخاصة سوريا، واستنفرت العالمَ لأجل ذلك فنزلت ساحَ الشام إيرانُ وحزبُها في لبنان وأتباعها، وتتابعت ترسانات الأسلحة إلى سوريا من روسيا ومن كل حَدَبٍ وصوب دعماً لنظام بشار المترنح. ثم جاءت بتحالف عسكري عربي وغربي بذريعة خطر تنظيم الدولة وإرهابه، ومع ذلك لم تستطع فرض الحل الذي تريده، وهو استبدال عميل جديد بعميلها بشار. ثم أتت بِروسيا نفسِها، بجنودها وخبرائها لتسلح معقل الكفر المتهالك، وتدججه بما تتوهم أنه سيحول دون سقوطه، ودون صعود الإسلام وإقامة الخلافة. ثم ها هي تستعمل أحدث الطائرات وأعتى الأسلحة ضد شعب أعزل أراد أن يستعيد كرامته، ولا سبب لذلك سوى أن هذا الشعب مسلم ويزداد تمسكاً بإسلامه.
إن إحدى نقاط استراتيجية أمريكا اليوم هي حرب عالمية على الشعب السوري، سببها وبطلها الإسلام والوعي الإسلامي والسياسي. وهذا دليل على حجم الخطر الذي يرتعدون منه، والذي جعلهم يكذبون بشأن حقيقة المشكلة، ويتجاهلون أنها ثورة شعب على طاغية، ويصورونها بأنها إرهاب هم صنعوه وسلحوه وضخَّموه وأوقعوا العالم في مصيدته.
10- نستطيع القول إن فشل الاستراتيجية الأمريكية التي جاء بها أوباما أو التي جاءت بأوباما بدأ يظهر ويتضح أكثر فأكثر. فقد تعرضت للتعديل مرتين؛ الأولى عندما تخلت عن دعم الإسلام الأمريكي أو المعتدل وإيصاله إلى الحكم، والثانية عندما أخذت بسياسة الحروب العسكرية بشكل أكبر بدلاً من القوة الناعمة. فاقتربت بذلك من سياسة بوش الابن مع فارق أنها اليوم تستعمل المشاركة بشكل كبير.
وكذلك بدأ ينكشف للمسلمين أن أمريكا هي التي تدعم الطاغية المستبد بشار أسد، وهي التي تمنع إسقاطه فيما هو يمارس عمليات إبادة ضد الناس. وهي التي توسع نفوذ إيران المدافعة عن نظام بشار بالمال والدم والرجال. وكذلك فإن رعبها - ومعها في هذا الرعب روسيا وأوروبا - من فكرة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة العائدة بقوة وجاذبية وتسارُع إلى قلوب المسلمين وعقولهم، يزداد ويتحول إلى هاجس. لذلك تبحث أمريكا وتفكر بحلول استباقية...
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع