من الملاحظ في هذه الأيام أن الأمة منفصلة انفصالاً تاماً عن الدولة، أي عن الحكام وأن العلاقة بين جمهرة الناس والحكام علاقة بين فئتين متباينتين لا علاقة بين رعايا ودولة، وفضلاً عن ذلك... هي علاقة كراهية وتضادّ وتناقض ليس فيها أيّ تقارب ولا ما يشعر بإمكانية وجود تقارب في المستقبل، وهذا هو الذي يضعف كيان الأمة ويضعف الدولة، كذلك لأن الرعية بدون وجود راع منها تكون واهية البنيان، والدولة بدون وجود رعية تقف صفاً واحداً خلفها تكون واهية الوجود يمكن إزالتها بأقل جهد، وتكون عرضة للاستعانة بأعداء الأمة...
إن هذه الحالة من الانفصال بين الأمة والدولة هي نتيجة عدم قيام الأمة بما فرضه الله عليها من محاسبة الحكام، وعدم شعورها بأنها هي مصدر السلطان، فلو كانت تشعر بأنها مصدر السلطان وتقوم بما فرضه الله عليها من محاسبة الحكام، لما تولاها حاكم خائن عدو لها، ولما كان بينها وبين الحكام هذا الانفصال ولما كانت في هذا الضعف، في هذا التفكك، في هذا التأخر، ولما ظلت تحت نفوذ الكفار فعلاً وإن كان الذي يحكمها حكماً مباشراً مسلماً من أبناء المسلمين. لذلك كان لا بد للأمة حتى تكون كياناً واحداً هي والحكام، وفئة واحدة هي والدولة، أن تقوم بواجب محاسبة الحكام، وأن تقول كلمة الحق في وجه الحكام، وأن تعمل بقوة وبجدّ للتغيير على الحكام أو تغييرهم، وما لم تبادر إلى ذلك فإنها ولا شك ستظل تنحدر بسرعة فائقة هذا الانحدار الذي نراه حتى تفنى أو تشرف على الفناء.
إن الإسلام جعل محاسبة الحكام فرضاً على المسلمين، وأمرهم بمحاسبة الحكام وبقول الحق أينما كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم. أما قول الحق والجهر به فإن المسلمين في بيعة العقبة الثانية حين بايعوا الرسول e قد بايعوه على قول الحق فقد قالوا في نص البيعة ما نصه "وَأَنْ نَقُولَ الْحَقَّ أَيْنَمَا كَانَ لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ"، وأما محاسبة الحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فإنه بالرغم من أنها داخلة في آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جاءت نصوص صريحة بالأمر بمحاسبة الحكام، فعن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله e: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»... فهذا نص في الحاكم ووجوب قول الحق عنده، ووجوب محاسبته، وقد حث الرسول e على مكافحة الحكام الظلمة مهما حصل في سبيل ذلك من أذى حتى ولو أدى إلى القتل. فقد روي عنه e أنه قال: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» وهذا من أبلغ الصيغ في التعبير عن الحثّ على تحمل الأذى حتى الموت في سبيل محاسبة الحكام، وكفاح الحكام الظلمة.
إن كفاح ظلم الحكام الذي نراه اليوم ومحاسبة هؤلاء الحكام على أعمالهم كلها، وعلى خياناتهم وتآمرهم على الأمة فرض فرضه الله علينا معشر المسلمين. والقيام بهذا الفرض هو الذي يزيل الفواصل الموجودة بين الأمة والحكام. وهو الذي يجعل الأمة والحكام كلهم فئة واحدة وكتلة واحدة، وهو الذي يضمن التغيير على الحكام، ويضمن كذلك تغييرهم إن لم يكن التغيير عليهم. وهو أول طريق النهضة، فالنهضة لا يمكن أن تتأتى إلا عن طريق الحكم حين يقام على عقيدة الإسلام، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإيجاد الحكم على العقيدة الإسلامية، وإيجاد الحكم على هذا الأساس ولا سبيل إلى ذلك إلا بكفاح الحكام الظلمة ومحاسبة الحكام.
رأيك في الموضوع