شهدت الأعوام الأخيرة صعود اليمين المتطرف وبمعنى آخر التيار القومي المتطرف في أوروبا وفي أمريكا وتأثرت بلاد أخرى بذلك، حتى شاركت هذه الحركات القومية في الحكم في بعضها كالنمسا وإيطاليا، ودخلت البرلمانات في بعضها الآخر كألمانيا وفرنسا وهولندا. وأثرت في بريطانيا حتى كان لها أثر في خروجها من الاتحاد الأوروبي.
واتخذت عداوة الإسلام وتهديد الأجانب لبلادهم تكئة خوفا على بنية شعوبهم الثقافية وعلى وضعهم الاقتصادي. فترامب في أمريكا والحركات القومية في أوروبا ركزت على هذين العنصرين. وهذه ظاهرة سيئة جدا تنذر بعواقب سيئة للإنسانية وليس فقط تجاه المسلمين، وتتحول تجاه بعضهم بعضا. لأنها شعور بحب الذات الجماعية والرغبة بالمحافظة على سيادتها وكراهية الغير، والميل إلى الحط منهم والسيادة عليهم، فيغلب على أصحابها اتباع الهوى والتعصب الأعمى والتعالي على الغير وحب السيطرة عليهم ونهب ثرواتهم. ولهذا بدأت الحركات القومية في أوروبا تسعى لتدمير الاتحاد الأوروبي الذي هو مصدر قوتها ليحافظ كل شعب على هويته القومية وعلى مكاسبه المادية، وهي شعوب متخوفة من بعضها، وكثير منها تخاف سيطرة الشعب الألماني أو الفرنسي عليها. ورأينا ترامب في أمريكا بعدما اتخذ عداوة الإسلام والمسلمين شعارا له بدأ يعادي من يشتركون معه في الثقافة والقيم والحضارة. علما أن مثل ذلك قد حصل في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية مما أدى إلى نشوبها وتدمير أوروبا. ولهذا كانت القومية ظاهرة خطيرة، وجب علاجها جذريا.
إن الشعبوية أو القومية تعني الرابطة العائلية بشكل أوسع، وهي مظهر من مظاهر غريزة البقاء، تثار عندما يشعر القوم أن لديهم مشاكل داخلية مشتركة أو أن هناك تهديداً لكياناتهم أو مصلحة مشتركة كتحقيق مغانم لهم فيندفعون للغزو، وفيها حب السيادة فيرى القوم أنفسهم أعلى من الشعوب والأقوام الأخرى، فعندئذ يسعى للسيطرة عليهم، فتبدأ النزاعات بينهم. وهي خالية من الفكر، فهي مشاعر غريزية، فلا ينبثق عنها نظام للحياة ولا توجد فيها حلول للمشاكل، وهذا ما كان لدى المغول الذين اندفعوا بوحشية يقتلون ويخربون، وكذلك في أوروبا قبل تبنيهم المبدأ الرأسمالي، فالحروب بينهم أكلت الأخضر واليابس، ومن ثم اندفعوا نحو العالم الإسلامي في الحروب الصليبية يقتلون وينهبون.
ولكن إذا تبنى القوم فكرا معينا ونهضوا على أساسه فإنهم يندفعون به ممزوجا بالمشاعر القومية إذا لم يعالج هذا الفكر المسألة القومية. وهذا ما حدث للشعوب الأوروبية عندما تبنت المبدأ الرأسمالي الذي لم يستطع أن يعالج المسألة القومية. فأقرها، فأصبحت شعوبها كلها قومية تعمل على نهضتها وسيادتها، متبنية العلمانية أي فصل الدين عن الحياة، والديمقراطية تنادي بالسيادة للشعب على أساس أنه هو الذي يشرع حسب هواه ومصلحته. فبدأ الصراع بينها على السيادة والمغانم، فاندفعت فرنسا بقيادة نابليون لتسيطر على أوروبا وعلى العالم. واندفعت كل الشعوب الأوروبية لاستعمار الشعوب الأخرى وامتصت دماءها بلا رحمة في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، لأنها لا تعرف الإنسانية. واشتعلت الحروب الكبرى والعظمى بينها، منها الحربان العالميتان الأولى والثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من شعوبهم ودمرت بلادهم.
والآن بدأت هذه الشعوب تتوهم أن هناك تهديدا من الأجانب بسبب المشاكل الاقتصادية وأنهم يشغلون أماكن عملهم على حسابهم، وقد ازدادت البطالة، وقلت النقود بأيديهم، فذهبت إلى جيوب أصحاب المليارات من دون أن يدرك أصحاب التعصب القومي ذلك أو أن كبارهم تغاضوا عنه وركزوا على الأجنبي البسيط، لأنهم لا يريدون أن تدرك شعوبهم حقيقة المشكلة بأنهاتكمن في سيطرة أصحاب رؤوس الأموال منهم على مقدرات شعوبهم. وهم لا يريدون للأجنبي أن يأخذ منهم شيئا إذا لم يأخذوا منه أضعاف ما أعطى. ولا يريدون له أن يصبح له تأثير في بلادهم فرأوا أن المسلمين أصبحوا بعشرات الملايين في أوروبا متمسكين بدينهم، فاستشعروا الخطر على ثقافتهم. فهم لا يريدون للأجنبي إلا أن يكون خادما خانعا كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، فاحتاجوا لعمال لتشغيل مصانعهم ومزارعهم وحظائر حيواناتهم ولاستخراج معادنهم من باطن الأرض ولتنظيف مدنهم فاستجلبوهم من البلاد الأخرى وخاصة الإسلامية لوفرة الثروة الشبابية لدى المسلمين. وعندما رأوا أن هؤلاء العمال وأكثرهم من المسلمين قد استقروا وبقوا محافظين على ثقافتهم، بل ازداد أبناؤهم وأحفادهم تمسكا بدينهم وثقافتهم الإسلامية مع ازدياد الوعي لدى المسلمين في العالم، دقت نواقيس الخطر لدى الأوروبيين، وخاصة أن تناسلهم ضعيف وتناسل المسلمين قوي، وغالبية المسلمين رفضت الاندماج في مجتمعاتهم بمعنى أنها رفضت الثقافة الغربية.
فمنذ الخمسينات حتى أواخر التسعينات من القرن الماضي بقي للفكر الاشتراكي تأثير في أوروبا، فكان الفكر القومي المتطرف ضعيفا جدا بسبب انهزام النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وأكثر ما ساد في أوروبا بجانب الفكر الاشتراكي هو الفكر القومي المعتدل وهو ما يعرف باليمين الوسط ويتفق مع الفكر الاشتراكي المعتدل وهو اليسار الوسط الذي ساد أوروبا حيث إن الطرفين يقبلان بما يطلق عليه (العدالة الاجتماعية)، وقد تبنيا فهما معتدلا للقومية والوطنية. فتعاونا على إجهاض الفكر الاشتراكي المتطرف والفكر القومي المتطرف. وقد نبذا الحروب فتوافقا في السياسة الخارجية، فأصبح هناك تقارب بين دول أوروبا سواء أكانت الحكومات من يمين وسط أم يسار وسط حتى إنه يحصل بينها ائتلاف، فأقامت الاتحاد الأوروبي وحافظت عليه.
والجدير بالذكر أن هؤلاء سمحوا لليمين المتطرف بالنمو ليهدد المسلمين حتى يقبلوا بالاندماج أي قبول الحضارة الغربية، ويعبرون عنها بالثقافة الغربية. ولكنهم لم يريدوا له أن ينمو نموا كبيرا لئلا يهدد الأحزاب المعتدلة في اليمين وفي اليسار. وعندما عجزت الأحزاب المعتدلة عن معالجة الأمر رغم استخدامها كل أساليب الترهيب والتضييق ضد المسلمين في محاولة لدمجهم في مجتمعاتهم قويت الحركات اليمينية المتطرفة.
فاليمين المتطرف أصبح يهدد تيار الوسط من الأحزاب المعتدلة من يسار ويمين، ولهذا لجأت هذه الأحزاب لخداع المسلمين ودعوتهم للانخراط فيها للوقوف في وجه اليمين المتطرف، فهي خدعة لدمجهم بصورة أخرى. فعلى المسلمين أن يعوا هذه النقطة، كما عليهم أن يتمسكوا بدينهم بقوة ويدعو له ويفندوا الأفكار الاشتراكية والرأسمالية مثلما يجب عليهم محاربة القومية المنتنة كما وصفها رسول الله e، حيث إن المبدأ الإسلامي هو المبدأ الوحيد الذي نجح في معالجتها وصهر الشعوب كلها في بوتقة الإسلام فكان نجاحه منقطع النظير، وسيعيد هذا النجاح عندما يقيم المسلمون خلافتهم الراشدة على منهاج النبوة قريبا بإذن الله.
رأيك في الموضوع