إن وجود الصراع بين الدول أمر طبيعي، وذلك لاختلاف المصالح وتعارضها، وهذا الأمر بالنسبة للدول التي تعتنق الرأسمالية أمر حتمي، فالاستعمار هو طريقة الرأسمالية، وقد أصبح نتيجة نهم الرأسماليين في كثير من الأحيان أقرب لكونه غاية، والتنافس والتشاحن والركض وراء المنافع المادية جزء لا يتجزأ من الرأسمالية.
وقد كانت أوروبا حتى حين هي مكان ولادة الدولة الأولى في العالم، وكانت نتيجة الصراع بين الدول الأوروبية هي التي تحدد الدولة الأولى في العالم، وبقي الأمر كذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت أوروبا من الحرب محطمة، وارتفع نجم أمريكا لتتصدر مركز الدولة الأولى في العالم، ولتصبح أوروبا تحت جناح الحماية الأمريكية في مقابل الاتحاد السوفييتي. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي فرغ موقع الدولة الثانية في العالم وأصبحت هي القوة الأولى بلا منازع.
ومنذ تربع أمريكا على مقعد الدولة الأولى في العالم، بدأت في ملاحقة نفوذ الدول الأوروبية الاستعماري لتحل محلها، فهي ترى نفسها كما قالت أولبرايت "ليعلم الجميع أننا نفعل ما نريد ونغير ما نشاء ولا تقف في طريقنا عقبات، لأن العالم لنا، العالم للأمريكيين"، فتمدد أمريكا في العالم كان وما زال على حساب النفوذ الأوروبي، والمصالح التي تجنيها أمريكا في العالم هي على حساب المصالح التي تجنيها أوروبا من نفوذها الاستعماري في العالم. فأمريكا ورثت العالم من أوروبا وهي مكرهة، لذلك نشأ الصراع بين أوروبا وأمريكا.
كما أن الناظر إلى الواقع الدولي وواقع الدول الكبرى في العالم اليوم لا يرى منافِسا محتملا لأمريكا من ضمن الدول القائمة، ويملك القدرة والأدوات العالمية على ذلك سوى أوروبا، لذلك فإن أمريكا ترى أن الخطر على مكانتها الدولية ومصالحها في العالم يكمن في أوروبا، فكانت سياسة أمريكا تجاه أوروبا هي الحيلولة دون وحدة أوروبا، وإبقاءها تحت المظلة الأمريكية في الحلف الأطلسي، ومنع قيام قوة أوروبية عسكرية خاصة بها.
والصراع الأمريكي الأوروبي لم يظهر عليه أبدا المظهر العسكري المباشر، ولا يتوقع ذلك أبدا، وإنما هو صراع سياسي واقتصادي، وصراع عسكري أحيانا كثيرة بين العملاء.
ونظرة سريعة للنزاعات المسلحة في إفريقيا مثلا نرى أنها صراع على النفوذ بين (فرنسا وبريطانيا) وأمريكا من خلال العملاء، فالنزاع في جنوب السودان نزاع بين عملاء بريطانيا وعملاء أمريكا، والصراع في ليبيا صراع بين عملاء أمريكا وعملاء أوروبا (بريطانيا على وجه خاص)، وساحل العاج وإفريقيا الوسطى صراع بين فرنسا وأمريكا، وكذلك الصراع في اليمن فهو صراع بين عملاء أمريكا وعملاء بريطانيا، كل هذه الصراعات وغيرها صراعات محلية وراءها الصراع على النفوذ بين أمريكا وأوروبا.
وقد ظهرت حقيقة الخلافات الأمريكية الأوروبية جلية في حرب أمريكا على العراق عام 2003، عندما وصف رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي موقف ألمانيا وفرنسا بأنه تحالف "أوروبا العجوز"، وكذلك برز الخلاف في أزمة أوكرانيا حيث جاء على لسان نولاند سب مقذع لأوروبا عندما أبلغها السفير الأمريكي في أوكرانيا أن أوروبا ستعترض على ياتسينوك مرشح أمريكا لرئاسة وزراء أوكرانيا، وظهر أيضا في معارضة أوروبا لخطة أمريكا لتسليح أوكرانيا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن اليورو يشكل منافسا خطيرا لهيمنة الدولار الأمريكي من بين جميع العملات العالمية، وهذه نقطة حساسة بالنسبة لنفوذ أمريكا في العالم، لذلك تسعى أمريكا دائما لإضعاف مكانة اليورو، وإفقاد الثقة العالمية به.
إن مظاهر الصراع بين أوروبا وأمريكا كثيرة جدا، فهي تشكل مادة الصراع في العالم القديم كله تقريبا، والحديث عن أوروبا حديث عن الدول الكبرى فيه، والدول التي لها وجود عالمي أو تسعى لأن يكون لها دور عالمي كألمانيا، وذلك بالرغم من أن معظم مظاهر الصراع على النفوذ تتعلق بشكل خاص بالصراع بين (فرنسا وبريطانيا) من جهة وأمريكا من جهة أخرى لأن فرنسا وبريطانيا هما الدولتان الوحيدتان اللتان تملكان نفوذا استعماريا خارجيا من بين دول أوروبا جميعها، ومع ذلك فالدولتان تستعينان بالدول الأوروبية الأخرى في صراعهما مع أمريكا، ويمكن ملاحظة وحدة الموقف السياسي الأوروبي وانسجامه في قضية ليبيا أمام محاولات أمريكا.
إنه لمن المؤلم أن تكون الأمة الإسلامية هي مادة هذا الصراع وهي موضوعه في معظم الحالات، فبعد أن كان للأمة الإسلامية كيانها الذي يمثلها وهو دولة الخلافة الإسلامية، وبعد أن كانت دولة الخلافة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم، أصبحت أمتنا مرتعا للصراعات، تنهشها ذئاب الرأسمالية، وتتقاذفها أيدي الطامعين، فتسيل دماء أبنائها، وتهتك أعراض المسلمات، وتنتهك الحرمات ليحل نفوذ مستعمر كافر محل نفوذ مستعمر كافر آخر، فما أعظم هذا البلاء.
نسأل الله سبحانه أن يعيد للأمة عزها ومكانتها ودولتها لتنشر في العالم الرحمة والطمأنينة وتريح العالم من شرور الرأسمالية.
رأيك في الموضوع