أعلنت اليونان وفريق الدائنين يوم الاثنين 13/7/2015 عن توصلهم إلى اتفاق بخصوص ديون اليونان التي باتت اليونان عاجزة عن دفع فوائدها الربوية وخدمتها للبنوك والدول الدائنة، وكان آخرها مبلغ 1,5 مليار دولار لصندوق النقد الدولي. ولعل أهم شروط الاتفاق الجائرة هو إجبار اليونان على خصخصة المزيد من ممتلكات الدولة مثل شركة الكهرباء الوطنية ما يجعلها عرضة لبيعها لألمانيا وفرنسا وهذا ما كانت تسعى إليه ألمانيا ويخشاه شعب اليونان منذ بداية الأزمة المالية التي عصفت باليونان منذ عام 2009. وثمة شرط آخر لا يقل أهمية وهو كسر أنفة الشعب اليوناني الذي طالما اعتبر نفسه أبو الديمقراطية والحضارة وذلك بفرض "التأكد من موافقة الدائنين على التشريعات الهامة قبل طرحها للحوار العام أو رفعها إلى البرلمان". إن حزمة الإنقاذ العاجلة لليونان والتي تبلغ حوالي 7 مليار دولار كافية للسماح لبنوك اليونان أن تستعيد بعضا من نشاطها وأن تفتح أبوابها بحلول يوم الاثنين 20/7/2015 على أن تدفع اليونان 50% من هذه الحزمة (3،1 مليار يورو) لسداد بعض من ديونها للدائنين. وتفرض الاتفاقية مزيدا من الضرائب على اليونانيين والتقشف وتقليل الإنفاق الحكومي على المشاريع وسرقة أموال التقاعد لدفعها مقابل الربا المستحق على اليونان. وقد أبدى رئيس وزراء اليونان تشاؤمه من الاتفاق واعتبره أفضل شر يمكن القبول به لتفادي انهيار تام للدولة، في حين صرح أكثر وزير مالية اليونان السابق يانس فاروفاكس أن شروط الاتفاق التي فرضت على اليونان ستكون أكبر كارثة في تاريخ اليونان. ومن المقرر أن تستمر المفاوضات لتحديد معالم حزمة الإنقاذ الثالثة لليونان لمدة 3 سنين قادمة بقيمة 84 مليار يورو. وقد أكدت مستشارة ألمانيا ميركل أن حوالي 70% من المساعدات (حوالي 50 مليار) سوف يتم استعمالها لشراء ممتلكات الحكومة اليونانية والتي يجب أن تبيعها اليونان من أجل دفع ديونها!!
وليست هذه الحزمة إلا عملية تسمين سريعة تعد بها اليونان للذبح على موائد البنوك الربوية. ولا يوجد أي نوع من التفاؤل بإنقاذ اليونان سواء من السياسيين أو الاقتصاديين أو الأكاديميين الباحثين. فديون اليونان قد بلغت أكثر من 150% من قيمة ناتجها المحلي، وصادرات اليونان التي بموجبها تحصل اليونان على المال اللازم لسداد ديونها يقل عن 17% من دخلها القومي. أما أموال الإنقاذ التي تتجبر بها ألمانيا وأمريكا وفرنسا فإن معظمها تذهب بمثابة ضمان لديون الدائنين! وقد عبر عن ذلك البروفسور قسطنطين صوكالاس بقوله لقد ولى عهد التفاؤل الذي ساد البلاد منذ زوال الدكتاتورية!! ويضيف أن اليونان لن تتعافى من آثار هذه الأزمة وستبقى في تاريخها كما هي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وبهذا الاتفاق فقد تم تأجيل انهيار اليونان لمدة 3 سنين لا أكثر. ولولا أن انهيار اليونان وإعلان إفلاسها له آثار كارثية على البنوك الدائنة لا تقل عن أثر انهيار بنك ليمان بروذرز قبل 6 سنين لما حرصت ألمانيا وفرنسا وأمريكا على تأجيل انهيار اليونان وتوفير حزمة الإنقاذ (بل قل القتل البطيء) لليونانكما ورد في تعليق لصحيفة نيويورك تايمز.
وهكذا فقد باتت اليونان اليوم على مذبح بنوك أوروبا والبنك الدولي ومعرضة لهزات سياسية قد تطيح بحكومة اليونان واضطرابات داخلية قد تدخل البلاد في دوامة عنف بدأت بإلقاء قنابل مولوتوف على محطات البوليس في أثينا. والمشكلة الأعظم هي أن اليونان لا تجد بديلا ولا مهربا من نظام جائر أوردها موارد الهلاك. فالعالم ليس فيه إلا نظام مالي واحد هو نظام الرأسمالية الظالم بأنيابه المسمومة بالربا. فالاشتراكية قد اندثرت منذ زمن ولم تعد تستهوي أحدا، وإن كان رئيس وزراء اليونان من المنتمين إلى وهم الاشتراكية ولكنه لم يجد فيها ما يمكن أن يضمد له جراحا أو يشيع أملا. والإسلام بنظامه الاقتصادي المتميز ليس مطبقا في العالم وتخلى عنه أهله ومن يؤمن به، فلا يعتبر مرجعا ومثابة للناس كما أراده الله تعالى.
إن مشكلة اليونان تمثل الحالة البائسة التي يعيشها العالم اليوم في ظل الرأسمالية. فشبح الانهيار ماثل أمام كل دولة من أكثرها قوة كأمريكا حتى أضعفها في قبرص. وليس هناك بديل لأحد غير الفوضى والاضطراب واختلال التوازن. وإنه وإن كان النظام الرأسمالي وأربابه يتحملون وزر كل هذا التخبط والفوضى والفقر والاختلال، إلا أن المسلمين يتحملون وزرا آخر. وهو وزر الفراغ المبدئي وإبقاء العالم خاليا من مرجع يرجع إليه الحائر ويهتدي به الضال ويثوب إليه المنهك ويحتمي به الضعيف ويعز به الذليل وتنجو من براثن الربا والبنوك والمرابين شعوب العالم أجمع.
نعم لقد تخلى المسلمون عن أعظم نظام وأعدل شريعة وأفضل ما يصبو إليه البشر واتبعوا خطوات الشيطان الرأسمالي وتملقوا للكفر، وأعانوا على الظلم. والله قد أخرجهم خير أمة للناس يأمرون بالمعروف والعدل والتوازن وينهون عن المنكر والرأسمالية والربا، وجعلهم أمة وسطا عادلة قائمة بالقسط ليكونوا شهداء على اليونان وإسبانيا وقبرص وإيطاليا وإيرلندا حين تهوي شعوبها إلى الهاوية لتحول هذه الأمة بين تلك الشعوب وبين الهاوية.
بقلم: د. محمد ملكاوي
رأيك في الموضوع