بحث رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، مع نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، ترسيخ الديمقراطية في العراق وضرورة حماية الأقليات الدينية المضطهدة. حيث ذكر المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء، في بيان له 16 آذار/مارس 2018، أن "العبادي تلقى اتصالا هاتفيا من نائب الرئيس الأمريكي، بحث فيه معه ضرورة ترسيخ الديمقراطية في العراق وتقوية مؤسسات الدولة وأهمية المضي في مشروع المواطنة للتغلب على السياسات الطائفية والعنصرية".
إن أمريكا التي تتباكى اليوم على ما يسمى بـ(الأقليات) الدينية هي نفسها من أوجدت هذه الفكرة الخبيثة وعملت على تغذيتها لتفتيت دول المنطقة على أسس طائفية وقومية وأخرى دينية، فمن أولى المحاولات التي قامت بها بعد احتلالها للعراق هو شق نسيج المجتمع وتصنيفه إلى قوميات مختلفة وإذكاء الصراع الطائفي والديني، وزرع ذلك بالدستور الملغم الذي كُتب بإشرافها، وتضمين فقرة إقامة الأقاليم والحق بتشكلها على أساس عرقي أو قومي أو طائفي أو ديني، بل وإعطاء الحق بانفصال تلك الأقاليم إذا شاءت ذلك، وما هي إلا سنوات قليلة بعد الاحتلال حتى بدت الفتن الطائفية والعرقية والدينية في البلاد بالظهور، فحرب مع السنة، وأخرى مع الشيعة، وتلك مع الأكراد، وأخرى مع النصارى؛ فالكل مستهدف فيها، والجلاد جاثم على صدورهم يحرك الأطراف كيفما يريد في مشهد دموي وكارثي فقد فيه العراق خيرة علمائه وأبنائه.
لقد عُرف المجتمع في العراق بأنه مجتمع تطفو عليه صفة الثقافة الإسلامية، يمثل هذا المجتمع طوائف عدة وعلى مر السنين والعقود الماضية لم يعرف أحد من أهل العراق معنى الطائفية المقيتة، وكان الجميع يعيش في أمن وسلام ومكان واحد يحتوي على جميع الثقافات والعقائد. فالتعايش السلمي بين مكونات المجتمع يمتد لزمن بعيد، شعب لا يعرف للطائفية أبسط معانيها إلا من زمن قريب وتحديدًا بعد الاحتلال الأمريكي الذي لم يترك شيئًا إلا ودمره وساهم في تخريب منظومته الرئيسية، هذا الاحتلال وبتدخل مباشر منه وبمساهمة كبيرة من دول الجوار دمر ولدرجة كبيرة ثقافة الشعب العراقي في التعايش السلمي والمشترك بين طائفة وأخرى، وبين عقيدة وأخرى.
وإذا عدنا إلى التاريخ قليلاً، أي قبل أن تسقط الخلافة العثمانية، سنجد أن الدول الغربية استخدمت ورقة خلق (الأقليات) والدفاع عن حقوقها ونصرتها لتحقيق مصالح استعمارية. وبعد هدم الخلافة العثمانية وتقسيمها إلى دويلات هزيلة على أساس قومي أو طائفي أو ديني، استمر الاستعمار الغربي في اللعب على هذه المسألة، فأثار أهل الجنوب في السودان حتى تحقق الانفصال فعلياً، وأوجد مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد المشكلة نفسها في جنوب شرق تركيا. وبدأ الآن في إيجادها في سوريا، وفي المغرب مسألة الصحراء. وفي المغرب والجزائر مشكلة البربر، وفي مصر مسألة الأقباط، وفي إندونيسيا يراد فصل جزر عدة عنها بعدما نجح الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجح في تقسيم باكستان عام 1971م، وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات الهزيلة من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها... وتستخدم ورقة (الأقليات) وحقوقها ذريعة للتقسيم والتفتيت.
وبناءً على ذلك يتبين أن مفهوم الأقلية مفهوم مختلق من قبل الدول الاستعمارية الكبرى خاصة، ومن قبل مؤسساتها وأدواتها العالمية، ألا وهي الأمم المتحدة ومجلس أمنها الذي يصدر القرارات، ويعطي للدول الاستعمارية صلاحية التدخل، بل واحتلال البلاد وفرض العقوبات والحصار، وغير ذلك من أنواع الجرائم التي ترتكب في حق شعوب آمنة بريئة قادرة على حل مشاكلها بنفسها، حيث تقوم هذه الدول الاستعمارية الجشعة التي تعودت على مصِّ دماء الأبرياء ونهب ثرواتهم، بإقامة حكومات لها تسميها ديمقراطية، من أجل حفظ حقوق (الأقليات)، حيث نشط الكافر المستعمر في السنوات الأخيرة في هجمته الشرسة على العالم الإسلامي لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت بإثارة وإذكاء فتنة حق تقرير المصير للطوائف الصغيرة. والغريب أن هذه الدول الغربية الاستعمارية لم تتوقف عن إثارة الطوائف الصغيرة العرقية والدينية واللغوية بعد أن احتلت بلاد المسلمين، بل أخذت بتغذيتها وتركيزها إعداداً للمرحلة القادمة التي تمثلت في إقامة دول قومية ووطنية علمانية على أنقاض الخلافة العثمانية التي حرصت في رسم حدودها على جعل عامل الأقليات سبباً حاضراً للتدخل في شؤون هذه الدول والسيطرة عليها، ولإيجاد المتاعب لها وإثارة مسألة الأقليات كلما اقتضت الحاجة.
بينما نرى أن الإسلام نظم العلاقة التي تربط الأفراد المكونين للدولة على أساس رابطة الرعوية الإسلامية التي تقوم على اعتبار المقيمين في الدولة إقامة دائمة هم رعايا الدولة، لا على أساس المواطنة والجنسية والأقليات، وقد تجاوزت رابطة الرعوية رابطة الأخوة الدينية التي تصلح فقط لوصف علاقة المسلمين الروحية بعضهم ببعض، تجاوزتها إلى الرابطة السياسية بين رعايا الدولة من المسلمين وغيرهم. وجعل الإطار السياسي للدولة الإسلامية هو (دار الإسلام). والشريعة الإسلامية بوصفها وحياً من الله تعالى لا يختص بها قوم عن قوم أو جنس عن جنس قررت مفهوماً متميزاً للرعوية يناقض مفهوم الجنسية القومي، حيث يقوم مفهوم الرعوية الإسلامي على الارتباط بدار الإسلام الذي يجعل غاية الدولة إقامة أحكام شرع الله على الناس، وإسقاط كل اعتبارات التمايز بينهم، وعليه فإن كل من رضي بأحكام الشرع وانقاد لها ممن يعيش عيشاً دائمياً في دار الإسلام، سواء أكان مولوداً فيها أم مهاجراً إليها، مسلما كان أم غير مسلم يحق له الحصول على رعوية الدولة وحمل هويتها، وبهذا نلاحظ التناقض بين الإسلام وبين الفكر الغربي المبني على تمييز جماعة عن أخرى فضلاً عن مفهوم "المواطنة" الذي يميز "المواطن" عن غيره من الأجانب. فالإسلام يحرم بناء الرعوية على أساس الفكر القومي أو الوطني أو الديني فضلاً عن مخالفة الإسلام لنظرية الجنسية الغربية لتمييزها بين الجنسية الأصلية والجنسية المكتسبة، حيث تجعل الأنظمة الوضعية لصاحب الجنسية الأصلية حقوقاً أكثر مما تقر للمتجنس، أما الإسلام فلا يفرق بين حصول الرعوية بحق الدم أو حق الإقليم، ولا يفرق بين الحاصل عليها بالولادة أو بالهجرة، بل إن الإسلام قد جعل حق الرعوية هو الفرد نفسه وبصفته الإنسانية المجردة إن أراد الإقامة الدائمية في دار الإسلام. فلم تعرف الدولة الإسلامية مفهوم الأقليات طوال عهدها الممتد عبر قرون وقرون من الزمان، إلا ما كان من تسرب هذا المفهوم من الغرب بتخطيط وتدبير من الدول الغربية الطامعة في بلاد المسلمين في أواخر عهود الخلافة العثمانية.
وأخيراً فإنه يجدر بنا أن نؤكد حقيقة لا بد للناس من فهمها وإدراكها: إن مشكلة الأقليات مشكلة مصطنعة، وإن علاجها لا يمكن أن يكون عن طريق الدولة العلمانية الديمقراطية التي سلطها الكافر المستعمر على رقابنا؛ لأن الدولة العلمانية غير قادرة على حل مشكلة الأقليات إذ هي التي ولدتها، ولن يكون هناك حل لمشكلة الأقليات إلا في ظل دولة الخلافة لأنها دولة قادرة على صهر الناس في بوتقة الإسلام، وقادرة على رعاية شؤون أهل الذمة بما يضمن لهم حياة سعيدة مستقرة آمنة، وهذا ما يشهد به التاريخ وعلى مدى قرون طويلة.
بقلم: الأستاذ علي البدري
رأيك في الموضوع