إن أول من أطلق مصطلح "الرجل المريض" هو قيصر روسيا نيقولا الأول قاصدا بذلك الدولة العلية العثمانية بسبب ضعفها "حسب زعمه" وذلك عام 1853م، أي قبل إعلان سقوط الدولة العثمانية بـ71 عاماً. وقام أيضا بعد إطلاق هذا المصطلح بدعوة بريطانيا أن تشاركه في اقتسام أملاك الدولة العثمانية. لكن ما يجب ملاحظته قبل الخوض في موضوعنا، أن إطلاق هذا المصطلح على الدولة العثمانية هو عمل سياسي بامتياز كان المقصود منه استغلال بعض عوامل الضعف التي طرأت على الدولة العثمانية وإظهارها أمام العالم وأمام الأمة الإسلامية على وجه الخصوص بمظهر الرجل المريض خائر القوى غير القادر على الحركة، وهذا ما نسميه الدعاوة ضد الدولة الإسلامية والذي يعود بنا في الذهن إلى الحالة التي تعرض لها الرسول r عندما استغلت قريش قيام سرية عبد الله بن جحش بالقتل في الأشهر الحرم فأقامت الدنيا ولم تقعدها، دعاوة ضد النبي عليه الصلاة والسلام ودولته.
أما بالنسبة لموضوعنا، فنبدأ الحديث فيه بالسؤال الذي يسأله الكثيرون: هل أمريكا رجل مريض فعلا وأنها على وشك الانهيار أم أنها لا تزال دولة قوية تتحكم بالعالم كله؟
والجواب على ذلك ببساطة أنها فعلا رجل مريض على وشك السقوط في الوقت الذي لا تزال هي الدولة الأقوى في العالم والمسيطرة على جميع الأحداث والوقائع فيه.
ولبيان ذلك نقول:
أولا: في خضّم الحديث عن انهيار الدول وسقوطها، لا نبحث هنا سقوط الدول الهامشية والتابعة، وإنما نحن معنيون بالدول المبدئية التي تحمل فكرة وتعمل على نشرها في العالم مثل الدولة الإسلامية والاتحاد السوفييتي سابقا والولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيا: لا بد من ملاحظة أن هناك فرقاً شاسعاً بين سقوط الدولة، المتمثلة بالكيان السياسي، وانهيار الحضارة أو الفكرة، التي تبناها هذا الكيان وعمل على نشرها في العالم.
ثالثا: إن عوامل سقوط وانهيار الكيان السياسي والدولة تتمثل في سقوط وانهيار عوامل قوتها. وقوة الدولة تكون من قوة وتأثير الفكرة التي تحملها وتنشرها في العالم، فإذا ما كان الضعف في الفكرة نفسها، كأن تكون فكرة فاسدة تخالف فطرة الإنسان ولا تعالج مشاكل البشر بالشكل الذي يضمن لهم السعادة والطمأنينة فهذا يعني انهيار هذه الحضارة القائمة على هذه الفكرة وبالتالي السقوط الحتمي للدولة التي تبنت هذه الفكرة. وفي المقابل، فقد يطرأ الضعف في فهم الفكرة عند حامليها مع بقاء الفكرة ذاتها قوية توافق فطرة الإنسان وتعالج مشاكله واحتياجاته بالشكل الذي يضمن للبشرية السعادة والطمأنينة، ونتيجة لهذا الضعف الذي يطرأ على أذهان حاملي هذه الفكرة يكون سقوط الدولة آتيا من عوامل الهدم الخارجية التي تمارسها الدول التي تناصب العداء لهذه الدولة، ولا يكون مطلقا آتيا من الفكرة نفسها التي لا مشكلة فيها أصلا.
وقد يكون سقوط الدولة وانهيارها آتيا من اجتماع العامليْن معا على هذه الدولة، بمعنى، ضعف الفكرة نفسها وفسادها، بالإضافة إلى أعمال الهدم التي تمارسها ضدها الدولة أو الدول العدوة لها.
وللتمثيل على ما سبق من القول، فإن الدولة الإسلامية سقطت في أوائل القرن العشرين نتيجة أعمال الهدم الخارجية التي مارستها بريطانيا وفرنسا وروسيا ضدها بالدعاوة ضد الفكرة الإسلامية وتشويهها، بالإضافة إلى الضعف الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم إسلامهم، مع بقاء الفكرة الإسلامية قوية مؤثرة تجتاح القلوب قبل العقول حتى يومنا هذا.
أما الاتحاد السوفييتي فقد كان عمره أقصر من عمر مؤسسيه، فقد اجتمع على سقوط هذا الكيان الهزيل عاملا السقوط الاثنين، وهما فساد الفكرة الشيوعية وقصورها، ومحاربة أمريكا له والقضاء عليه بالضربة القاضية. وهذا ما يفسر السرعة القياسية في سقوط دولته.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الناظر لها يجد أنها لا تزال تحافظ على كيانها السياسي من السقوط وأنها لا تزال القوة الأولى في العالم المتحكمة فيه والقابضة على زمام الأمور وهي صاحبة الصولة والجولة تفعل ما تشاء كيفما تشاء دون أن تكترث إلى أي كيان أو دولة لأنها تعتبر العالم كله ملكاً لها، مستندة في ذلك على غطرستها السياسية وقوتها الاقتصادية.
ولكن، من ينظر إلى أمريكا من هذه الزاوية فقط، يكون قد أساء الفهم وأخطأ المعرفة والصواب، وتغافل عن الحقيقة الكبرى، ألا وهي أن أمريكا وإن كانت الدولة الأولى في العالم، إلا أن عوامل سقوطها وانهيار كيانها السياسي وحتمية زوالها واقع لا خيال، وذلك لسببين اثنين:
أولهما: فساد الفكرة الرأسمالية وضعفها وانهيارها عالميا حتى عند معتنقيها قبل أعدائها. وهذا يتمثل بالتراجع الحاد والانحدار المستمر لقيم وأفكار النظام الرأسمالي وتعرض هذه القيم والأفكار لموجات متتالية ومتلاحقة من الكراهية وعدم الثقة بقدرتها على ضمان الحياة الهنيئة للبشرية. فقد تعاظمت في الآونة الأخيرة في أمريكا نفسها الحركات المناهضة للظلم الرأسمالي على الناس مثل حركة "احتلوا وول ستريت" التي ظهرت بشكل واضح بعد ما سُمي بثورات الربيع العربي وإطاحتها بثلاثة أنظمة متتالية في وقت قياسي. وتحولت هذه الحركة بسرعة إلى حركة عالمية حيث خرجت المظاهرات في أكثر من 1.500 مدينة حول العالم؛ مئة منها في الولايات المتحدة وحدها، وتحولت المظاهرات إلى اشتباكات عنيفة في العاصمة الإيطالية روما.
ومن جانب آخر فقد تعرض الاقتصاد الأمريكي الذي يمثل رمز قوتها وسيطرتها على العالم، تعرض هو أيضا لضربات موجعة وقاتلة ابتداء من ارتفاع المديونية الأمريكية إلى مستويات خيالية، وصل المعلن عنه إلى 19 ترليون دولار، مرورا بالهجرة الجماعية للشركات الأمريكية العملاقة إلى خارج البلاد بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج داخليا، إضافة إلى فضيحة أزمة الرهن العقاري التي أخرجت ملايين الأمريكيين من بيوتهم وجردتهم من أموالهم، والإعلانات المستمرة لإفلاس الشركات والبنوك الأمريكية الكبرى وعلى رأسها بنك "ليمان برذرز". ومثال بسيط على مؤشرات ضعف الاقتصاد الأمريكي، فإن هناك ما يقارب خمسةَ آلاف جسر في الولايات المتحدة بحاجة للصيانة، إضافةً لكثير من الطرقات والمرافق العامة، والدولة عاجزةٌ عن صيانتها للكُلْفة العالية.
وأضف إلى الانهيار الاقتصادي، الانهيار الإنساني والأخلاقي داخل الولايات المتحدة؛ فالعنصرية متفشية فيها بشكل عام، وخصوصًا بين بيض وسود البشرة. كما وصل الانهيار الأخلاقي عندهم إلى ما وصل إليه، ولا أدلّ على ذلك مما تمّ تشريعه مؤخرا من إباحة زواج المثليين والشواذ. أما بالنسبة للعنف المفرط، فهذه بعض الإحصائيات التي تظهر مدى التخلخل القيمي والمجتمعي عندهم:
كل 17 دقيقة يُقتل أمريكيٌ بالسلاح.
من كل ألف أمريكي يوجد تسعة في السجون.
100 ألف أمريكي يتعرضون للضرب بالرصاص سنويًا.
289 شخصًا في المعدل يتعرضون لإطلاق النار يوميًا.
53 شخصًا ينتحرون يوميًا.
ومن المؤشرات المهمة في ملاحظة الانحدار المستمر لأمريكا، هو أن الناظر إلى واقع أمريكا بين الأمس واليوم يجد الفارق كبيرًا والبَون شاسعًا، فحيث كانت ترسم المخططات، وسياستها الدولية تنفذ بدقة وتتحرك بتحرك السيد المطاع. فقد دخلت أمريكا في مرحلة ما يمكن تسميته بـ"سياسة رد الفعل"، أي السياسة غير الممنهجة والمدروسة مسبقًا، فظهر تخبط أمريكا سواء على الصعيد الداخلي الأمريكي اقتصاديا، أو على الصعيد الخارجي سياسيًا، وبرز ذلك في قضايا كثيرة كان من أهمها داخليًا قضية التأمين الصحي أي "أوباما - كير"، أما خارجيًا فلا يحتاج الإنسان إلّا لتتبع المشهد في الثورة الشامية وقرارات أوباما وخطوطه الحمراء، وفشل المبعوثين الأمميين الواحد تلو الآخر، ومؤتمرات جنيف ذات الرعاية الأمريكية، وغرف العمليات في تركيا والأردن، والفشل في إيجاد البديل، وعليه فالسياسة الأمريكية تترنح وهي آيلة للسقوط.
أما العامل الثاني من عوامل انهيار الإمبراطورية الأمريكية، فهو سنّة الله في خلقه. فالدول الاستعمارية لا بد لها من نهاية، والظلم عاقبته عبر التاريخ وخيمة، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]
وخلاصة القول، إنّ هناك فرقا بين انهيار الدولة حسابيا وعلى الأوراق وبين الإعلان الرسمي لهذا الانهيار وإصدار شهادة الوفاة. فالدولة العثمانية مثلا، سقطت حسابيا وعمليا عام 1918 إلّا أنّ إعلان السقوط الرسمي وإلغاء نظام الخلافة استغرق 6 سنوات وذلك عام 1924. وواقع أمريكا اليوم، هو أنها هي الرجل المريض، بل وشديد المرض، وأنها إلى زوال حتمي ووشيك، وهذا يتطلب منا أن نداوم على الأعمال السياسة التي تظهر مرضها وتكشف زيف وفساد فكرتها وخطورتها على البشرية للعالم أجمع، وأن نغذّ الخطى نحو إيجاد النظام البديل، بل الأصيل المتمثل بنظام الخلافة الرباني والذي سيوجه الضربة القاضية لأمريكا وكل الأنظمة الفاسدة التي أدخلت العالم أجمع في دوامة البؤس والشقاء. ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا.
وصدق الله العظيم حيث قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: عبد الرحمن السقفي
رأيك في الموضوع