توفيت زوج الرسول e السيدة خديجة رضي الله عنها، كما توفي عمه أبو طالب في عام واحد، سمي عام الحزن حيث فقد رسول الله e بفقدهما الدعم والسند المادي وجعله يعيش حزنا مزدوجا، ففي الحياة العامة باتت تنتظره مضايقات وضغوط بعد أن خلت الساحة من أبي طالب الذي مثل الدرع والحاجز الذي يحول بين قريش وبين ابن أخيه محمد e. وفي الوقت ذاته بات البيت خالياً من تلك الزوج الصالحة المؤنسة الحانية رمز الطمأنينة والسكن. في هذا الوقت وهذه الظروف الشديدة جاءت حادثة الإسراء والمعراج، فأزالت الوحشة وطمأنت القلب الحزين وحفزت فيه الإصرار على المضي قدما في طريقه، فما دام الله تعالى معه فأي قوة تقدر على إيقافه؟
وفي رحلة الهجرة تعجز صولة سراقة التي كادت تعصف بالنبي r من النيل منه بتدخل القوة الإلهية لحمايته من ضربة مشرك تمكن منه. وأمام هذه الحالة الإعجازية يطلق النبي الكريم e وعداً لسراقة بسواري كسرى إن عاد أدراجه ولم يفش سره. فما كان من سراقة إلا تصديق هذا الوعد العجيب، نعم صدقه حين رأى أن هذا الرجل محمي من قوة غير بشرية.
هذا الوعد بسواري كسرى إنما كان يحمل بشرى بفتح بلاد الفرس وهزيمة كسرى قائد إحدى قوتين تهيمنان على العالم في ذلك الوقت، وتحققت البشرى بعد أكثر من عشرين سنة من ذلك التاريخ.
أما بشرى فتح روما وقسطنطينية فقد كان تحققها الأبعد زمنا لكن لم يقلّ تصديق الصحابة لها عن بشرى انتصار الروم على الفرس، وبشرى فتح مكة والمسلمون لا يتمكنون من دخولها حتى معتمرين، ولا عن فتح الشام وتنفيذ إنطاء تميم الداري أرض سبتة الخليل من أرض فلسطين...
روى الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو قال:بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ e نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ e أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ». صححه الذهبي في التلخيص، والألباني في السلسلة الصحيحة.
نعم كانت بشرى فتح هاتين المدينتين الأبعد زمنا في تحقق البشارات لكن التصديق بها لم يتطرق إليه أي شك عند المسلمين، فقد كانت من الصادق المصدق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
من ثم فقد حرص الخلفاء على تحقيق هذه البشرى على أيديهم وسيروا الحملة تلو الحملة لعل أحدهم يحظى بالمدح الذي أغدقه النبي e على من يتحقق على يديه ذلك الفتح العظيم، روى الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك أن رسول الله e قال: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
إن تحقق بشرى فتح القسطنطينية عاصمة الأرثوذكسية الكافرة، يقع كالبلسم الشافي على قلوب المسلمين المعذبين في الأرض، فأرضهم مغتصبة وسلطانهم مخطوف، وكرامتم مهدورة، وأمنهم مفقود، وإن إحياء ذكرى تحقق هذه البشارة يبعث في المسلم الأمل في النهوض من هذا المستنقع الذي يرزح فيه، ويعيد إليه الهمة لتحقيق ما هو أبعد من النهوض، بل حري بأن يحفز المسلم الحق على العمل لتحقيق البشرى الثانية التي بشر بها النبي e في الحديث ذاته وهي فتح روما عاصمة الكاثوليكية، نعم إنه محفز كبير للتفكير في كيفية النهوض وتحقيق البشائر لأن تحققها يحتاج لإعداد غير عادي. فقد فتحت القسطنطينية بعد ثمانمائة وسبع وخمسين سنة من إقامة الدولة الإسلامية الأولى، وتتويجا لعهد طويل من الجهاد وسلسلة من الفتوحات الكبيرة التي امتدت طوال هذه الفترة من الزمن. وقد كان الفاتح الذي تحققت البشرى على يديه قد أُعد إعدادا ممتازا: فكريا وثقافيا وفنيا ووجدانيا جعله أهلا لتحقيق البشرى العظيمة، فالبشرى حق ولكن تحققها لم يأت بالتمني ولا بالأحلام. نعم لم يكن بتلك السهولة واليسر رغم وجود الدولة الإسلامية وهيمنتها المطلقة على العالم، ومن ثم فإن تحقيق بشرى فتح روما يحتاج للأخذ بالأسباب. وأول هذه الأسباب: الرجال الرجال المؤمنون الصادقون الصابرون الواعون الواثقون بربهم ودينهم وأنفسهم، الذين يعلمون أن الدنيا تؤخذ غلاباً وأن الأهداف تتحقق بالجد والعمل لا بالنوم والكسل. حينها يأتي السبب الثاني وهو إعادة الصرح القادر على القيام بهذا الفتح المبين. نعم إن إعادة دولة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية هو الخطوة الأولى في طريق تحرير المغتصب من بلاد المسلمين والقيام بالفتوحات العظام. ويا له من شرف نتشرف به إذ تتحقق بشارات رسولنا على أيدينا.
وإننا في ذكرى فتح القسطنطينية نهيب بكل مسلم يحب الله ورسوله e، ويفخر بمحمد الفاتح وبطولاته، أن يشمر عن سواعد الجد ويلتحق بركب الخير الذي يسعى لتحقيق البشارات النبوية فيفوز فوزا عظيما. كما نهيب بكل شاب وشابة من شباب حزب التحرير الرائد الذي آلى على نفسه أن يكون في مقدمة الأمة يرشدها في طريق النهضة والتحرير، نهيب بهم أن يكونوا على قدر حزبهم جدية وتفانيا وأن يُروا الله منهم الإخلاص والإقدام لعل الله تعالى يمن علينا بالنصر والتمكين ويشرفنا بتحقيق وعده وبشارات نبيه e فالله تعالى يقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، ويقولجل من قائل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
نعم إنه الإيمان اليقيني والعمل الصالح الجاد الخالص لله رب العالمين، هو الذي يجعلك تعطي الدنيا حقها والآخرة حقها بل تفضل الآخرة الباقية على الدنيا الفانية. ضع نصب عينيك أن تكون من الذين ستعود الخلافة على أيديهم والذين سيحررون بيت المقدس بمقاتلة يهود والقضاء على وجودهم في أرض الإسراء والمعراج، ولم لا تكون من فاتحي رومية معقل الكاثوليكية الكافرة عابدة الصليب؟ ضع نصب عينيك هذه الأهداف السامية واجعل أعمالك على هذا المستوى. حينها سينظر الله تعالى إلينا نظرة رضا ويمن علينا بتوفيقه ونصره وتمكينه فتتحقق البشرى الأولى، بشرى إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة فتعيد للمسلمين أمنهم وأمانهم وهيبتهم وعزتهم، ثم يتوالى بعدها تحقق البشارات، وينال أصحابها الشرف والكرامة ورضوان منه أكبر، إنه كريم حليم.
اللهم إنا مؤمنون بوعدك مصدقون لبشارات نبيك e فاجعلنا أهلا لتحقيقها خالصة لوجهك الكريم لا نبتغي من ذلك سوى رضوانك. اللهم منا الدعاء ومنك الإجابة فأنت القائل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
رأيك في الموضوع