كانت فكرة إنشاء الجامعة العربيّة فكرة من أخبث الأفكار الاستعماريّة وأخطرها، أنشئت بقرار من وزير الخارجية البريطاني "أنتوني إيدن" في أربعينات القرن الماضي، ثم اخترقها النفوذ الأمريكي، لتكريس دويلات هزيلة (صنعها المستعمر للحيلولة دون عودة الخلافة)، فلم تكن سوى أداة استعمارية تنفذ ما يُطلب منها، فكلّ قراراتها مذ أنشئت كانت تفريطا في فلسطين وتكريسا لكيان يهود. وكانت تبريرا لتدمير العراق، وإعطاء المهل لسفّاح الشّام بشّار، المهلة تلو المهلة حتّى يُمعن في قتل الأبرياء. وصمتت عن مجازر فرعون مصر، أمّا هرولة دويلات الخليج للتطبيع السرّي والعلني مع كيان يهود فعميت عنه القمّة وصمّت آذانها.
ولم تشذّ القمة العربية العادية الثلاثون التي انعقدت بتونس، يوم 31/03/2019، عن المسار الخياني للقمم السابقة، فجدول أعمالها متكرّر مبتذل، تحدّثوا عن القضية الفلسطينية وأزمتها المالية، وأزمة سوريا والوضع في ليبيا، واليمن، والتدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية. واختتمت القمّة بـ"قرارات" هي أقرب إلى الشعارات العامّة وأشبه بعناوين فضفاضة خالية من كلّ مضمون:
فالقضية الفلسطينية التي يزعم حكام العرب أنّها في مقدمة اهتماماتهم لم يفوّتوا في هذه القمّة تأكيدهم الكاذب "على مركزية القضية الفلسطينية... وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين"تحوّلت عندهم من قضيّة أرض مغصوبة يجب استرجاعها كاملة إلى جزيئات قضيّة، بل إلى مجرّد مشكلات إنسانية منها مشكلة اللاجئين وعودتهم، ومشكلة أموال يجمّدها كيان يهود ويمنع وصولها إلى الفلسطينيين، أمّا اغتصاب الأرض وتهويدها فأمر عفا عليه الزّمن، وبدل أن يوجّه حكّام العرب جيوشهم إلى فلسطين لتحريرها وقلع كيان يهود اشتدّ تنافسهم نحو التطبيع معَ كيان يهود، ففي عامٍ واحدٍ (2018) عُزفَ ما يُسمّى بالنشيد الوطني لكيان يهود في الدوحة عاصمة قطر وفي أبو ظبي وفي الرباط عاصمة المغرب، واستقبل حاكم سلطنة عمان نتنياهو رئيس وزراء كيان يهود علنا.
أمّا قرار أمريكا بتهويد الجولان، فبالكاد خرجت القمّة العربيّة بـ"رفض القرار الأمريكي الأخير حول سيادة (إسرائيل) على الجولان،..." وهو رفض كاذب من طرف اللسان؛ ذلك أنّ أغلب الحكّام العرب رفضوا في القمّة السابقة التي انعقدت في 15/04/2018 قرار أمريكا بنقل سفارتها إلى القدس ولكنّهم هرولوا بل تنافسوا في الاستجابة لدعوتها في مؤتمر وارسو المنعقد يومي 13 و14/02/2019 الذي دعت إليه بزعم مكافحة المد الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وفي ذلك المؤتمر جالس وزراء خارجيّة الحكام العرب بنيامين نتنياهو على الطاولة نفسِها.
وكان من قرارات القمّة "رفض التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية. وإدانة محاولات إيران العدوانية الرامية إلى زعزعة الأمن وما تقوم به من تأجيج مذهبي وطائفي في المنطقة"، أمّا التدخّل الإجرامي الأمريكي والأوروبي والروسي في كلّ البلاد فيصمتون عنه صمت أهل القبور. بل نجد انخراطا صريحا في الاستراتيجية الأمريكيّة المسمّاة "الحرب على الإرهاب والتطرّف"، خطّة أمريكا في الحرب على الأمّة الإسلاميّة ومحاولة الحؤول دونها والتحرّر من الاستعمار وإقامة دولتها. ولم يفت حكّام العرب في هذا السياق تجديد مساندتهم لأمريكا بـ"استنكار تشويه بعض الجماعات المتطرفة لصورة الإسلام".
ولذرّ الرّماد على العيون ندّد حكّام العرب "بأعمال الإرهاب والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان، ومنها ما يحدث ضد مسلمي الروهينجا في ميانمار". في الوقت الذي يستصرخ فيه الأطفال والنّساء والشيوخ المسلمين لإنقاذهم من الذّبح والتنكيل، يكتفي حكّام العرب بالتّنديد، وتظلّ الجيوش محبوسة في ثكناتها لا تنطلق منها رصاصة واحدة لإيقاف جريمة حكام ميانمار، ولكنّ هذه الجيوش تنطلق وتحلّق طائراتها بأوامر من أمريكا لتصبّ القنابل صبّا على رؤوس المسلمين في اليمن. والملاحظ أنّهم لم يذكروا ما يتعرّض له المسلمون في تركستان الشّرقيّة من جرائم بشعة بأيدي النّظام الصيني المجرم وصمتوا كأنّ الأمر لا يعنيهم.
وفي الجملة فإنّ اجتماع حكّام العرب كعدمه بل هو أخطر من عدمه، فقد جعلوا جميع قضايا المسلمين بيد الكافر المستعمر يصرّفها كيف يشاء وليس لحكّام العرب من نصيب فيها إلا السمع والطّاعة وتنفيذ ما تقرّره الدّوائر الاستعماريّة.
تمثّل قمّة الجامعة العربيّة المنعقدة في تونس بقيّة النّظام الذي فرضه المستعمر بعد إزالة دولة الخلافة، يجتمع فيها أشباه حكّام، لم يجتمعوا إلاّ لتكريس دوريّة الانعقاد في محاولة يائسة لإثبات فشل ثورة الأمّة. والقمّة من هذه الجهة مهمّة للمستعمر صانع النّظام الرّسمي العربي الذي يريد تفتيت ثورة الأمّة وردّها إلى مجرّد مشاكل لبعض الدول العربيّة يجب تسويتها بـ"التّضامن العربي" وتصحيح المسار.
وفي المقابل:
فقد أدركت الشعوب المسلمة أنّ هذه الدّول العربيّة هي دويلات ضرار هزيلة وأنّ حكّامها أشباه حكّام لا يملكون من الأمر شيئا بل هم أشدّ عداوة وأعظم خطرا من المستعمر. فثاروا عليهم منذ 2011 حيث انطلقت الثورة من تونس وامتدّت إلى باقي البلاد العربيّة، وهي ثورة ما زالت متواصلة رغم محاولات تحريفها ورغم المؤامرات الخفيّة بل الظّاهرة عليها، وها هي تمتدّ إلى السّودان فالجزائر وتعاود الجماهير المسلمة العريضة في كلّ البلاد المطالبة بقلع النّظام من جذوره، وتتطلّع إلى نظام بديل وقيادة مخلصة واعية. ولا بديل إلا نظام الإسلام الذي تعتنقه الشعوب في البلاد الإسلاميّة ومنها العربيّة، وقد بدأ الثائرون في كلّ البلاد يتطلّعون إلى تطبيقه، ولم يبق من قيادة تجمع بين الإخلاص والوعي إلا حزب التحرير الذي يعمل في كلّ البلاد من أجل ترشيد الثورة وتوجيهها وجهتها الصّحيحة نحو التحرّر من الاستعمار بقلع نظامه وخلع عملائه، وإقامة دولة الخلافة الرّاشدة على منهاج النّبوّة.
ماذا بقي؟
لم يبق إلا أن يلتحم المخلصون من أصحاب القوّة والمنعة بالجماهير المسلمة التي خرجت تريد إسقاط النّظام، ولم يبق إلا أن تنصر هذه الفئة القويّة قيادة حزب التحرير المخلصة الواعية وترفع الحماية عن أشباه حكّام باعوا البلاد والعباد للكافر المستعمر، وتقف في صفّ الأمّة والحزب وعندها يكون التحرّر من الاستعمار ثمّ تكون خلافة على منهاج النّبوّة كما بشر بها رسول الله e.
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية تونس
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
رأيك في الموضوع