حينما بدأت سفينة البحرية البريطانية بيركنهيد التي تحمل قوات بريطانية بالغرق قبالة سواحل جنوب أفريقيا عام 1852م اشتهر عن كابتن السفينة وضباطها أنهم سمحوا للنساء والأطفال أولا بركوب قوارب النجاة وبقي الكابتن والعديد من الجنود على ظهر السفينة حتى النهاية، وهلكوا في المحيط. وقد تباهت بريطانيا بهذا الموقف مما دفع المشرعين وخبراء النقل البحري على إرساء قواعد السلوك النبيل في البحر. ويرجع البعض أن قصة القفز من السفينة الغارقة إنما يعود لهروب الجرذان من السفينة حينما توشك على الغرق نتيجة لما لديها من إحساس عالٍ بأن السفينة ستغرق.
أي كان أصل القصة أن القفز من السفينة الغارقة وترك الآخرين يواجهون مصيرهم يعتبر عملا مشينا خاصة إن أتى من قبطان السفينة، ومع ذلك صار القفز من السفينة الغارقة أمرا شائعا وكثيراً ما يحدث في شتى نواحي الحياة. فالأحزاب التي تنسحب من الائتلاف الحكومي متى ما رأت أن الحكومة آيلة إلى السقوط يعتبر عملها هذا قفزاً من السفينة. ورؤساء المؤسسات الإعلامية حينما يشعرون أن مؤسستهم قد فقدت بريقها وانصرف الناس عنها ويقدمون استقالاتهم فإنهم قد قفزوا من السفينة الغارقة، ومدراء الشركات الذين يستقيلون عن شركاتهم وهي تترنح للسقوط فإنهم كذلك، وكذا الوزراء الذين يستقيلون عن وزاراتهم حينما يشعرون أن الحكومة قد فشلت وصار مصيرها إلى زوال حتمي يعتبر فعلهم هذا قفزاً من السفينة الغارقة... فهل الأمر ينطبق على وزير الخارجية السوداني أم هي صحوة إحساس بالمسئولية؟ القرائن وحدها هي التي تعطي المؤشر الحقيقي للفعل.
كما هو معلوم فقد أقال رئيس الجمهورية عمر البشير وزير خارجيته إبراهيم غندور بعد ساعات من خطابه الذي ألقاه على البرلمان حيث شكى فيه من عجز وزارة المالية والبنك المركزي عن سداد مرتبات العاملين في وزارته بالخارج وكذا عن دفع إيجارات المباني وذلك لمدة سبعة أشهر متتالية، مما حدا ببعض السفراء للمطالبة بالعودة إلى البلاد، وأضاف أن المبالغ المطلوبة لا تتعدى الثلاثين مليون دولار، وذكر أنه قد رفع هذا الأمر لرئيس الجمهورية ثلاث مرات ولا استجابة بالرغم من توجيهات الرئيس؛ وهذا ما دفعه لطرح الأمر للعلن على حد قوله. وقد أثار هذا الأمر ردود فعل متباينة وذلك كما ورد في وسائط الإعلام.
فمنهم من هاجم غندور ووصف خطابه بأنه كان غير دبلوماسي - مع أنه يتربع الدبلوماسية السودانية -. فقد كشف ثغرات في حالة البلد الاقتصادية مما ساهم في تمليك أعداء الحكومة وخصومها مادة دسمة ليهاجموا بها الحكومة ويشككوا في مقدراتها، كما أنه أرسل رسالة سلبية للمستثمرين الدوليين بأن البلاد في حالة اقتصادية مزرية. وفي الحقيقة إن غندور استخدم ما تعلمه من الدبلوماسية ليوصل بها رسالته ويحقق بها أهدافه. فقد اختار المجلس الوطني كمنبر إعلامي يبث من خلاله رسالته وهذا يجعلها موضع اهتمام، وقد اختار الألفاظ التي توصله إلى هدفه فظهر بمظهر الحريص على مصالح العاملين معه في الوزارة حتى ولو أدى ذلك بالتضحية بنفسه في سبيلهم، وبذلك استطاع أن يكسب تعاطف كثير من الناس. كما أن الألفاظ التي وصف بها الواقع المالي والاقتصادي للبلاد كان كفيلا أن يقذف به خارج سفينة الإنقاذ. وبذلك يكون اصطاد عصفورين بحجر واحد. وعلى كفة إنجازات الدكتور غندور فإن غندور من أبناء الإنقاذ فسوآتها سوآته وفشلها فشله، فقد تقلب في كل مؤسسات الدولة النقابية والتشريعية والتنفيذية فلم نر منه إلا ما رأينا من الإنقاذ. أما ما يقال عن الاختراق في العلاقات الأمريكية السودانية ورفع الحظر عن السودان، فإننا إذا أمعنا النظر في هذا الإنجاز فسنجد أننا دفعنا كل شيء طلبته أمريكا وبجرة قلم مسحت أمريكا ما كتبته عن رفع الحظر عن السودان بقرار إبقاء السودان ضمن الدول الراعية لـ(الإرهاب)، وهذا يترتب عليه عدم التعامل والتعاون مع السودان، والواقع المعاش خير شاهد على ما نقول.
إن سفينة الإنقاذ وبعد أن أبحرت طوال السنوات السابقة وصمدت أمام كثير من الأمواج التي تلاطمتها من هنا وهناك، إلا أنها اهترأت نتيجة ما أصابها من الداخل بالتشرذم والتموضع وذلك بسبب التنافس على ما بقي في القصعة، وقد شخص الرئيس البشير ذلك الواقع بأن الكيكة صغيرة والأيادي كثيرة. هذا من الداخل أما من الخارج فإن الموج أصبح عاتيا وضرباته متتالية ومتقاربة؛ فموجة الفساد وموجة الغلاء الطاحن الذي لم يسبق له مثيل في السودان وموجة البطالة وموجة السيولة النقدية، وهي لم تفسح المجال لغيرها ومع ذلك جاءت موجات شح الوقود المتتالية التي شلت الحياة وعطلت مصالح الناس... لذلك كان من الطبيعي أن يفكر الكثيرون في القفز من السفينة الغارقة، فإن قفز غندور فسوف يتبعه آخرون.
ولكن هنالك علامة استفهام كبرى، ثم ماذا بعد هذا الضيق وهذا الضنك وهذه المعاناة التي أخذت بحلاقيمنا؟ هذا السؤال ليس للتعجيز كما يطرحه كثيرون ممن يقتاتون من عرق المسحوقين ويشربون من دموع المغلوبين على أمرهم، إنما السؤال هو للتفكير ثم العمل الجاد والصحيح والمثمر الذي يخرجنا من عنق الزجاجة التي حُشرنا فيها. هل نحن خير أمة أخرجت للناس؟! هل نحن الذين أُنزل علينا قول الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾؟ هل نحن من أنزل عليهم قول الله تعالى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾؟ إذن إجابة السؤال قد ذكرت في كتاب الله وما علينا إلا الاجتهاد في إنزاله على أرض الواقع فتزول الغمة بإذن الله.
رأيك في الموضوع