تختلف الزيارة الأخيرة لمحمد بن سلمان ولي العهد السعودي لأمريكا التي استمرت ثلاثة أسابيع - وهي زيارة رسمية - عن كل زياراته السابقة، وتختلف كذلك عن زيارات غيره من المسؤولين من جميع النواحي، فهي تأتي أولاً بعد إبعاد جميع منافسيه من السلطة، وتسلمه الفعلي للحكم، وهي من ناحية زمانية استغرقت أسابيع، بينما لم تتعدّ زيارة أي مسؤول آخر لأمريكا في أقصى حالاتها بضعة أيام، فهي أشبه بالإقامة وليست مجرد زيارة! ولقد أكثر ابن سلمان فيها من إطلاق التصريحات الخطيرة، وبيان وجهات النظر الجديدة الصادمة، وكان الأولى فيه أنْ يُرجئ ذلك لحين عودته إلى السعودية، فهو يحكم السعودية الآن مباشرة من أمريكا وهي العاصمة السياسية الحقيقية لحكمه.
لم يدّخر ابن سلمان وسعاً في مهاجمة كل شيء يتعلق بالإسلام تقرباً لأمريكا؛ فهاجم الأفكار الإسلامية والحركات الإسلامية وطراز العيش الإسلامي، فعقب اجتماعه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس قال إنّ المشكلات في الشرق الأوسط هي مع الأفكار التي لا تؤمن بمبادئ الأمم المتحدة، وتنتهك بشكل صارخ كل قوانين وأعراف الأمم المتحدة، وفي ترويج الأيديولوجيات عابرة للحدود وليست لها علاقة بالمصالح الوطنية.
فابن سلمان يُهاجم أفكار الإسلام العالمية، ويُروّج لتبني الأفكار الوضعية التي تُقرها قوانين الأمم المتحدة، ويدعو لتكريس الروابط الوطنية الانفصالية، رافضاً الاعتصام بحبل الله، وتحكيم الشريعة الإسلامية، والتمسك بالكتاب والسنة، وتوحيد المسلمين والاعتصام بحبل الله المتين.
وأعلن ابن سلمان الحرب على الحركات الإسلامية فوصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها حاضنة الإرهابيين، وتعهد في مقابلة له مع محطة "سي بي إس" باجتثاث عناصر الإخوان من المدارس السعودية في وقتٍ قصير، وقال بأنه يجب التخلص من التطرف، وهو ما يعني إقصاء جميع الحركات الإسلامية من الحياة السياسية والفكرية في السعودية، لأنّ تلك الحركات تدعو بشكل أو بآخر إلى الإسلام، وكل من يدعو إلى الإسلام في نظره إنّما يدعو للتطرف.
ورفض ابن سلمان أي شكل من أشكال العيش الإسلامي، فراح يتفاخر في أمريكا بما قام به من إنجازات اعتبرها إصلاحية، كالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وحضورها لمباريات كرة القدم، والاختلاط بالرجال، والسماح بإدخال دور السينما إلى المدن السعودية، وإحياء حفلات غناء ولهو، وما شاكل ذلك من مظاهر الحضارة الغربية.
وكشف ابن سلمان لصحيفة الواشنطن بوست عن حقيقة تأييد السعودية للجهاد (الإرهاب حسب تعبيره) في أفغانستان إبان غزو السوفيات، فقال إنّ الاستثمار في المدارس والمساجد الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة جاء عندما طلب الحلفاء الغربيون من السعودية استخدام السعودية لمنع عدوان الاتحاد السوفياتي، وفي ذلك اعتراف صريح بتوجيه الغرب للسعودية للقيام بحملة إرسال الجهاديين وتمويلهم لمحاربة الروس لحساب أمريكا والغرب، واعتبر أنّ الحكومات السعودية المُتعاقبة قد ضلت الطريق، وقال بأنه يجب إعادة الأمور إلى نصابها الآن فيما يتعلق بتمويل (الإرهاب)، كما وهاجم تيار الصحوة الذي قال بأنّه هيمن على البلاد نحو ثلاثين عاما مضت.
وفي مُقابل هجومه على الإسلاموالإسلاميين فإنّ ابن سلمان قام في رحلته هذه إلى أمريكا بالتقرب إلى اليهود والمتصهينين والصليبيين، فاجتمع بأكثر من ست مجموعات يهودية وصهيونية منها ايباك وبني بريت، وأظهر وداً غير طبيعي تجاه جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأمريكي وصهره اليهودي الذي كُلّف بملف الشرق الأوسط، فقد أمضى ساعات طويلة معه في بحث مؤامرة صفقة القرن، وفي الدور السعودي التمويلي لها، وقالت السفارة السعودية بأن الرجلين بحثا مستقبل خطة السلام.
كما واجتمع ابن سلمان بكل قيادات المجتمع الأمريكي من السياسيين والاستخباراتيين والمفكرين والاقتصاديين والإعلاميين، وحتى الرؤساء التنفيذيين لشركات مثل آبل وأمازون ومايكروسوفت وأوبر وولت ديزني ولوكهيد مارتن.
واهتمام أمريكا بابن سلمان ومقابلته لكل أركان ورموز المجتمع الأمريكي مرده إلى أنّ الرجل يُراد له أن يكون ملكاً لمدة طويلة، وهذه الاجتماعات تجعله يعيش في الجو الأمريكي تماماً، وهو ما يجعله قادراً على التفكير بنفس طريقة الأمريكيين، ويُصاغ عقله بنفس الطريقة الأمريكية، ومعرفة أين تكمن مصالحهم بشكلٍ دائم ليستطيع تحقيقها.
ولعلّ تصريح الرئيس الأمريكي ترامب الأخير عن سحب القوات الأمريكية من سوريا كان اختباراً لابن سلمان وكيف يفكّر، فردّ على التصريح بقوله بأنّه يجب على أمريكا البقاء في سوريا على المدى المتوسط إن لم يكن على المدى الطويل للحفاظ على نفوذها، ولئلا تفقد ما وصفه بالحاجز، ومنع تمدد نفوذ الآخرين، وقال بأنّه سيدعم بقاء أمريكا في سوريا، وهو ما يعني أنّه فهم أنّ عليه دفع المزيد من الأموال لأمريكا لقاء بقائها هناك.
وأمّا تصريحه مع مجلة تايم الأمريكية حول بقاء بشار الأسد في السلطة، وأمله في ألا يكون دمية بيد إيران، فجاء نتيجة لتأثره بالأجواء الأمريكية التي عاش فيها خلال الأسبوعين الأخيرين في أمريكا، وأدرك أثناءها حقيقة الموقف الأمريكي الحقيقي الداعم لبشار الأسد.
وأمّا عن تبديد أموال المسلمين على الأمريكان فحدّث ولا حرج، ولا نستطيع في هذه المقالة المحدودة حصر مئات المليارات التي أهدرها ابن سلمان في أمريكا على الصفقات والمشتريات، فحجم مشتريات السعودية من الأسلحة فقط بلغ ٥٤ مليار دولار في أقل من عام، فيما اعتبر الرئيس الأمريكي ترامب أنّ قيمة الصفقات قليلة وطالب بزيادتها، وفي الحفل المُسمّى بـ"الشراكة السعودية الأمريكية... معاً ننتصر"، وغيره من الاحتفالات التي حضرها قال بأنّه باجتماعاته مع ترامب كان سبباً في توفير أكثر من أربعة ملايين فرصة عمل في أمريكا، بينما تعيش السعودية أزمة خانقة، وتُعاني من بطالة مزمنة تفوق اثني عشر مليوناً من الشباب!!
وللدلالة على أزمتها هذه والناجمة عن إهدار أموالها في أمريكا فقد ذكرت مصادر مصرفية بأنّ السعودية أتمّت اقتراض ١٦ مليار دولار من بنوك أمريكية وأوروبية وآسيوية.
بإعلان ابن سلمان الحرب على الإسلام لإرضاء الأمريكان، وتبذيره لموارد الدولة وثروات الأمة على حاجات أعدائها، فإنّه بذلك يضع نفسه في عداد الحكام الذين عادوا شعوبهم، وتعاونوا مع أعدائهم، وهو ما يعني ضرورة الثورة عليهم، ووجوب العمل على إسقاط حكمهم.
رأيك في الموضوع