عرفت الخلافة بأنها رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
والخلافة والإمامة بمعنى واحد، حيث وردت الأحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد، روى مسلم عن النبي أنه قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، وفي الحديث الطويل الذي أخرجه الإمام أحمد، أنه e قال: «ثُمّ تكونُ خِلافةً على مِنهاج النُّبُوَّة»، وسواء سميت خلافة أو إمامة أو إمارة المؤمنين أو الدولة الإسلامية، فلا مشاحة في ذلك طالما التزم المدلول؛ لأن الواجب ليس التزام اللفظ، وإنما الواجب هو التزام المدلول، وهو كون الخلافة رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
وبما أن الخلافة قد أصبحت رأيا عاما عند عامة المسلمين، وباتت أملهم في الخلاص من الوضع المزري الذي يعيشونه، كما أنها أضحت هدفا عند بعض الحركات الإسلامية، فقد صار لزاما على المسلمين الآن، وأكثر من أي وقت مضى، معرفة طريقة إقامتها، كما دلت عليها الأدلة الشرعية.
إن المسلم إذا أراد معرفة كيف يصلي فإنه يدرس أدلة الصلاة، وإذا أراد أن يجاهد فهو يدرس أدلة الجهاد، وإذا أراد أن يزكي ماله أو يحج فإنه يدرس الأدلة المتعلقة بكل مسألة بعينها، فهو لا يبحث عن أحكام الصلاة في أدلة الحج، ولا عن أحكام الزكاة في أدلة الصوم، وهكذا. وكذلك إذا أراد أن يقيم الدولة؛ فإن الواجب عليه أن يدرس أدلة قيامها من فعل الرسول e، وحيث إنه لم يرد عنه eطريقة لإقامة الدولة إلا الطريقة المبينة في سيرته e؛ فإنه قد جانب الصواب أولئك الذين ذهبوا للبحث عن طريقة إقامة الدولة في أحكام الجهاد، وتبنوا القتال طريقة لإقامتها؛ لأن الرسول e لم يقم بالقتال مطلقا قبل إقامة الدولة، أي أنه لم يتخذ من القتال طريقة لإقامتها، بل إنه e قد نهى عن ذلك وشدد عليه، فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». كما جاء في تفسير ابن كثير عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَأَصْحَابه أَتَوْا النَّبِيّ e بِمَكَّة فَقَالُوا: يَا نَبِيّ اللَّه، كُنَّا فِي عِزَّة وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّة قَالَ: «إِنِّي أُمِرْت بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْم» وفي الحادثتين كأن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد استبطأوا إقامة الدولة، فأرادوا أن يلجأ e إلى القتال في إقامتها، وفي هاتين الحادثتين وفي غيرهما أصر e على المضي في طريقته، بل وغضب ممن أراد أن يثنيه عنها وإصرار الرسول eعلى القيام بأي أمر رغم تحمله الأذى في سبيله دليل على أن هذا الأمر فرض كما في الأصول.
إن إقامة الخلافة تحتاج إلى قوة عسكرية تمكن لها، هذا صحيح، لكن هذه القوة ليس مطلوباً أن تتوفر في الجماعة التي تعمل لإقامتها، بل لا يجوز أن تكون هذه الجماعة إلا سياسية، والأدلة السابقة وغيرها واضحة في ذلك، أما القوة العسكرية فواجب توفرها في الذين سيعطون النصرة للجماعة لتمكينها من استلام الحكم وإقامة الخلافة، وهم من يطلق عليهم أهل القوة والمنعة.
وهذا ما سار عليه الرسول e في إقامته للدولة الإسلامية الأولى، فإنه e قد طلب النصرة من أصحاب القوة والمنعة الذين كانوا يشكلون مقومات دولة حسب واقع المنطقة حولهم، ولذلك فإن الرسول e كان يدعو القبائل القوية إلى الإسلام ويطلب منها النصرة، فقبيلة تدمي قدميه الشريفتين، وقبيلة تصده، وقبيلة تشترط عليه، ومع ذلك يستمر e ثابتاً على ما أوحى الله إليه دون أن يغير تلك الطريقة إلى طريقة أخرى كأن يأمر أصحابه بقتال أهل مكة، أو قتال بعض القبائل ليقيم الدولة بين ظهرانيهم، وصحابته كانوا أبطالاً لا يخشون أحدا إلا الله، ولكنه e لم يأمرهم بذلك، بل استمر في طلب النصرة من أهل القوة والمنعة حتى يسَّر الله سبحانه الأنصار إليه فبايعوه بيعة العقبة الثانية، بعد أن كان مصعب رضي الله عنه قد نجح في مهمته التي كلفه بها الرسول e في المدينة المنورة، فبالإضافة إلى توفيق الله سبحانه له برجال من أهل القوة ينصرونه، فإنه رضي الله عنه قد أدخل بإذن الله الإسلامَ إلى بيوت المدينة وأوجد فيها رأياً عاماً للإسلام، فتعانق الرأيُ العام مع بيعة الأنصار، ومن ثم أقام الرسول e الدولة في المدينة ببيعةٍ نقية صافية.
هذه هي الطريقة الشرعية لإقامة الخلافة، والتي يجب أن تُتَّبع، لأن الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، كما أن سلوك غير هذه الطريقة يؤدي إلى تضييع جهود المسلمين، بل قد يؤدي إلى تركيز نفوذ الكفار المستعمِرين وعملائهم في بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع