أوشك شهرُ الرّحمةِ والغفران على الرّحيلِ بعد أن صمنا نهارَه وقمنا ليلَه، وهكذا صارت عادةُ النّاسِ في هذا الشّهرِ الكريم، وإن كان شهرُ رمضانَ شهرَ الصّيامِ والقيامِ، ولكنه ارتبط في تاريخِ المسلمين بالانتصاراتِ حتى أصبحَ شهرَ الانتصارات، لكون المسلمين يتقوّون بالصّيامِ والقيامِ في الجهادِ في سبيل الله لإعلاءِ كلمةِ اللهِ ورفعِ رايتِه خفاقةً فوق ربوعِ الأمصارِ التي فتحها أجدادُنا من الصّحابةِ والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى أن هدمت دولةُ الإسلامِ قبل نحو مئةِ عام، ومن حينها اقتصر المسلمون على الصّيامِ والقيامِ في شهرِ رمضانَ بعد تعطيلِ الجهاد، وهكذا كانت كثير من المعارك التي خاضها وانتصر المسلمون فيها في رمضان، وقد كانت تلك المعاركُ معاركَ مفصليّةً مصيريّةً في تاريخِ الإسلامِ والمسلمين، ابتداءً من معركةِ بدرٍ الكبرى مروراً بمعركةِ حطين وعين جالوت وفتح الأندلس والهند وباكستان وانتهاءً بمعركةِ العاشرِ من رمضانَ التي كانت بين المسلمين في الكنانةِ وبلادِ الشّام وبين كيان يهود، وقد كان العاملُ "الرّوحي" الذي يتحلى به المسلمونَ في هذا الشّهرِ الكريمِ، كان هو الحاسم في تحقيقِ الانتصارِ على أعداءِ الإسلامِ والمسلمين.
هكذا تُرجمت التّقوى والإقبالُ على الله سبحانه وتعالى بالتّقوى والقرباتِ من السّابقين، أمّا وقد سقط مجدُ المسلمين وأصبحنا نعيشُ في انحطاطٍ لم يمر على هذه الأمّة، فقد أصبح أجلّ وأعظم عملٍ يتقربُ به المسلمُ إلى خالقهِ بعد الإيمان به سبحانه وتعالى هو العمل لإعادةِ مجد الإسلام والمسلمين، باستئناف الحياة الإسلاميّة وتحكيمِ شرع الله في الأرض، لذلك كان حملُ الدعوةِ لإعادةِ مجد الإسلام والمسلمين في هذا الشهر هو شغل الأتقياءِ الأنقياء، فمن شحن نفسَه بالصّيامِ والقيامِ شحنها على حملِ هذه الدّعوة الجليلة، فكانوا يصومون النّهارَ ويقومون الليلَ ويصلون ليلَهم بنهارِهم في حمل الدّعوة، فتجدهم دائمي الحديث مع النّاس ليلتحقوا في مركب النّجاة، مدركين أنّ لهذا الشّهرِ مكانةً عظيمةً في نفوس المسلمين، وهم أكثرُ إقبالاً على الله فيه من غيره من الشّهور، وهم أكثرُ قبولاً لهذه الدّعوة في هذا الشّهر من غيره، وأكثرُ استعداداً للتّضحيةِ في سبيل الله، سواءً أكان اقتداءً بأجدادِهم الفاتحين أم مشاعرياً لإشعاعِ بريق العقيدةِ في نفوسِهم.
صحيحٌ أنّ حملةَ دعوةِ استئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ وإقامةِ دولةِ الخلافةِ قد استغلوا النفحاتِ الإيمانية الرّمضانية لحمل المسلمين على دعوتِهم، ولكنّهم يعلمون أيضاً أنّ هذا الفرضَ العظيمَ لا يقتصرُ على شهر رمضان، ما دامت حياةُ النّاس لا تنتظم وفق أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه في ظل دولةٍ تحكمهم بما أنزل الله وتوفرُ لهم أجواءَ الطّاعةِ والتّقيدِ بأحكام الإسلام، وتُصرف عنهم أجواء المعاصي والموبقات كما تفعلُ دويلات الضّرار القائمة في البلاد الإسلامية، فحاملُ الدّعوةِ يدركُ أنّ العملَ لنهضةِ الأمةِ عملٌ من أجلّ الأعمال وأعظمها أجراً عند الله، فهو وإن كان قد جدّ واجتهد في حمل دعوته في رمضان، فإنّه يدركُ أنّ دعوتَه هي أكلُه وشرابُه في رمضان وبعد رمضان كذلك، وقد تزود بالتّقوى في رمضان حتى يتقوى به لما بعد رمضان، فإن كان جاداً مجداً في رمضان فإنّه سيظلُ حالُه كذلك لما بعد رمضان، وإن قصّر في حمل دعوته في رمضان، فإنّ حمل الدّعوةِ لا يقتصرُ على شهرٍ دون آخر، واضعاً نصبَ عينيه قولَ المصطفى e لعمه «يَا عَمُّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَىْ أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ» أو كما قال e.
لقد اشتاق المسلمون في هذا الزّمان لإعادة شهر رمضان شهر الانتصارات، بعد أن تكالب عليهم القريبُ والبعيد، ونال منهم أهلُ الصّليب والملحدون ويهودُ وحتى عبدة البقرِ والحجر، لذلك لا يوجد عملٌ يطفئُ هذا الشّوقَ إلا العمل لإيجاد القائد المسلم، خليفة المسلمين الذي يجمع شملَ الأمةِ ويوحدُ بلادَها في دولةٍ واحدة منيعة، يُقاتلُ من ورائه ويُتقى به، كما قال رسولُ الله e«إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» وهذا الذي فهمه علماؤنا الكرام، حيث قال الإمامُ الغزاليّ رحمه الله: "الدّين والسّلطان توأمان، ولهذا قيل الدّين أس والسّلطان حارسٌ، فما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع". ونحن مدركون أيضا أنّ هذا العمل، وهو عملُ الأنبياءِ وأهلِ العزيمة، هذا العملُ من أكثر الأعمال أجراً عند الله سبحانه وتعالى، وتركه أو التراخي في أدائه معصيةٌ كبيرةٌ عند الله سبحانه وتعالى، أمّا أجرُه فهو أجرُ سيد الشّهداء، كما قال رسول الله e«سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» أمّا إثم ترك هذا العمل فهو كمن يموت ميتةً في زمن الجاهليّة، حيث قال e «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً»، لذلك يخطئ من يظن من النّاسَ أنّ صيام رمضان وقيامَه ينجيه من الحساب عن التّقصير أو عدم القيام بما هو أعظم من الصّيام والقيام، بل يجب أن يحيط بالإسلام كلِه، وخصوصاً الواجبات التي حضّ الشرع على القيام بها ورتّب على أدائها الأجرَ العظيمَ كأجر سيد الشهداء، والواجبات التي رتب على تركها الإثمَ الكبيرَ كمن يموت وليس في عنقه بيعةً للخليفة الذي يحكم بما أنزل الله، فمن قصّر في شيء من هذا العمل أو فاته القيام به فعليه المسارعة في تدارك نفسه في هذه الأيام المباركة، التي يضاعف فيه الأجر، وأن يعزم أمرَه على الاستمرار على هذا الخير فيما بعد رحيل هذا الشّهر الكريم، وليكن أملنا في الله كبيرا، في نصره لنا في هذه الدّنيا ومغفرته لنا يوم القيامة، فيدخلنا الجنّة ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
رأيك في الموضوع