تقوم العلاقة بين دول العالم على المصالح، لذلك تتقارب الدول أو تتنافر بقدر توافقها فيما بينها على مصالحها المشتركة، والحقيقة أن العلاقة الطبيعية بين الدول هي علاقة صراع، حتى وإن بدت في بعض الأحيان متقاربة ومتصالحة فيما بينها، ومرتبطة بتحالفات وغيرها، فالصراع الدولي متعدد الجوانب والصور، وميادينه وساحاته مختلفة، وفي غالب الأحيان خفي غير ظاهر إلا للمدقق المتفحص، والصراع مختلف عن الحرب وإن كانت الحرب إحدى صور التعبير عن تصارع الدول ولكن بطريقة عنيفة وخشنة.
والعالم اليوم تسيطر عليه الرأسمالية بشكل كامل، حتى تلك الدول التي كانت محسوبة على الاشتراكية كالصين وروسيا، لم يعد لها من الاشتراكية إلا اسمها، إذ لا أثر للاشتراكية في الدولة، بينما غالبية منظومتها السياسية والاقتصادية وعلاقاتها الدولية متساوقة ومتماهية مع المبدأ الرأسمالي، وبالمتابعة نستطيع أن نرصد العديد من مشاهد الصراع بين الدول المختلفة حول العالم، والذي يبرز في مجالات عدة مثل التجارة الدولية، والتكنولوجيا والطاقة، وعقد الاتفاقات والتحالفات، والأعمال السياسية المختلفة، ومن ذلك تمثيلا لا حصراً، الصراع الأمريكي الصيني بتشعباته المختلفة اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً لخدمة أهداف سياسية، حيث تسعى أمريكا إلى إبقاء الصين خلف أسوارها، والاكتفاء بكونها قوة إقليمية في محيطها، ومنعها من الخروج والتأثير في الساحة الدولية، ومنافستها على عرش العالم، إذ الولايات المتحدة تعتبر نفسها الدولة الأولى في العالم ولا يمكن لأي قوة أن تزيحها عن هذه المكانة.
كما يبرز هذا الصراع في الغرب الرأسمالي ذاته، حيث تحرص أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية على الهيمنة على أوروبا، ومنعها من العودة كقوة عالمية سواء متحدة أو متفرقة، فقد عملت أمريكا على إفشال فكرة الاتحاد الأوروبي، وأفرغته من مضمونه إلا من مظهره الاقتصادي والتجاري، بينما لم تستطع أوروبا حتى الآن تكوين قوة عسكرية (جيش أوروبي) مستقلة، والتحرر من القبضة الأمريكية المتمثلة بحلف شمال الأطلسي، والذي برز دوره بشكل فاعل إبان الحرب الباردة في ستينات القرن الماضي، وقد فقد هذا الدور مبررات وجوده مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم تم تفعيله وإعادة إحيائه في أزمة البوسنة والهرسك (1992-1995)، ومن ثم الحرب في كوسوفو (1998-1999)، أما اليوم فنحن نرى بشكل جلي كيف تدير أمريكا صراعها مع روسيا، بينما تخوض أوكرانيا الحرب بالوكالة عنها، بهدف تحطيم الحلم الروسي بالعودة إلى الساحة الدولية، والتأثير فيها، والمنافسة على مكانة الدولة الأولى كما كانت زمن الاتحاد السوفيتي، ويبدو من شراسة الحرب الحاصلة في أوكرانيا، وحالة الاستنزاف الطويلة التي تمارسها أمريكا ضد روسيا، والتي مضى عليها عام منذ انطلاق شرارة الحرب في شباط/فبراير 2022، يبدو أن أمريكا تسعى إلى تحطيم روسيا حتى كقوة إقليمية، وفي الأزمة الأوكرانية ذاتها فإن أمريكا تصطاد عصفوراً آخر بحجرٍ واحد، فبينما تحطم روسيا وتغيبها عن الساحة الدولية، فإنها تعمل على إخضاع أوروبا لهيمنتها وإحكام السيطرة عليها عبر إثارة الخوف لدى أوروبا من غضب ووحشية روسيا، مستغلة الصراع التاريخي بينهما.
وبالوقوف على الأحداث التي شهدها العالم، والتي تكشف عن أشكال الصراع ووحشتيه ودمويته بين الدول المختلفة، نجد تلك الدول لا تتوانى عن ممارسة أشنع الأساليب واستخدام أشد الأدوات فتكاً لتحقيق مصالحها، دون أن تبالي بحياة البشر أو حتى الحجر والشجر، فهي مستعدة لإبادة شعوب بأكملها، ومسح مدن وقرى من على الخارطة من أجل تحقيق أهدافها وإنجاز مصالحها، ومن الشواهد على ذلك أحداث الحرب العالمية الأولى، التي وصل عدد القتلى فيها إلى أكثر من 21 مليون إنسان ما بين عسكري ومدني، بينما الحرب العالمية الثانية وصل عدد ضحاياها من البشر إلى 60 مليون إنسان، أما ضحايا الغزو الأوروبي للأمريكيتين فوصلت قرابة 140 مليون إنسان، والحرب الأمريكية على أفغانستان أكثر من مليوني إنسان، والحرب على العراق أكثر من مليون إنسان، وكثيرة هي الأحداث وأعداد الضحايا التي تكشف عن إرهاب تلك الدول، وما تحمله من مبادئ وأفكار باطلة، لا يمكن بحال أن تكون مؤهلة لقيادة العالم، وأخذه إلى بر الأمان وشط السلامة والاستقرار، فكيف يمكن للعالم أن يطمئن على مستقبله، وهو يسمع أولئك القادة وهم يهددون ويتوعدون بإفناء العالم بالسلاح النووي في حال تأكدهم من الهزيمة، فقد قالها بوتين وكافة رجالات الدولة الروسية: "لا عالم بلا روسيا"، وفي المقابل فإن أمريكا مستعدة لارتكاب الجريمة نفسها، فليس غريبا عليها وهي أول من بادر إلى استخدام القنبلة الذرية في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين.
إن العالم اليوم يعيش في دوامة الخوف والرعب، وإن البشرية أسيرة لأطماع تلك الدول، التي تستبيح كل محرم، وتنتهك كل مقدس، ولا تقيم للقيم والأخلاق والمبادئ أي وزن إلا بقدر ما ينسجم مع تحقيق مصالحها الدنيئة وأهدافها الوضيعة، وإن البشرية اليوم هائمة على وجهها قد ضلت طريقها لا تدري أين المصير؟! بينما الإسلام المبدأ الوحيد القادر على إخراجها من التيه والضياع، والأخذ بيدها إلى حياة الطمأنينة والاستقرار والسلام، فالإسلام يوجب على الدولة أن تطبق أحكامه على رعاياها بالسوية بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو جنسهم أو لونهم، كما يوجب الإسلام على الدولة أن تحمل دعوته إلى الناس كافة رسالة هداية ورحمة ونور للعالمين.
السياسة في الإسلام يمارسها الأفراد والأحزاب والدولة بوصفها أحكاماً شرعية، لا كما هي عند الغرب، فن الممكن بمرجعية ميكافيلية، وعلى قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، ولذلك فإن الدولة الإسلامية ملتزمة باتفاقياتها، ووفية بتعهداتها ما التزم ووفى بها الخصوم، وإن تحركت جيوشها فإنها تتحرك مجاهدة في سبيل الله، تحمل دعوته تبتغي هدفا واحداً ووحيداً، متمثلة قول ربعي بن عامر رضي الله عنه إلى رستم قائد الفرس "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، فدولة الإسلام فاتحة لا مستعمرة، لذلك رأيناها لا تفرق بين خصوبة أرض العراق والشام ومصر، وبين صحراوية ووعورة شمال أفريقيا، وشهد التاريخ لأميرنا أنه كانت تشغل باله حتى رعاية الحيوانات، فيقول: "لو أن بغلة في أرض العراق عثرت لخشيت أن يسألني الله عنها"، ولآخر أنه خاطب السحاب "أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك"، ولآخر بأنه أمر بنثر البذور على رؤوس الجبال حتى لا تقول الطير مررت ببلاد المسلمين وخرجت جائعة!
أما عن أحكام الجهاد، وأخلاق الحرب فلا مجال للاستطراد فيها في هذا المقام، ويكفي أن نعلم أن مشروعية الجهاد من أجل إزالة الحواجز المادية التي تمنع وصول رسالة الإسلام للناس صافية نقية، واضحة مفهومة بلا تشويش ولا تشويه، وتلك الموانع تتمثل بالأنظمة الحاكمة في الدول الكافرة، لذلك فمن شرعنا أن نخير الناس خصالا ثلاث: اعتناق الإسلام، فإن قبلوه فهم إخواننا متساوون معنا في الحقوق والواجبات، أو البقاء على دينهم والخضوع لحكم الدولة الإسلامية، ودفع الجزية مقابل الحماية والدفاع عنهم، أو الحرب بيننا والغلبة للمنتصر، فإذا ما خضنا الحرب فبشهامة ومروءة، لا نقتل شيخاً عجوزا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا نهدم حجراً ولا نقطع شجراً، ولا يُقتل إلا من حمل علينا السلاح، نخوض الحرب متمثلين قول رسول الله ﷺ «فواللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلاً واحِداً خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم»، حصل أن دخلت جيوش الغزاة في ديننا كما فعل المغول فصاروا جنداً للإسلام، وحصل أن طالبت شعوب وأمم بحكم الإسلام دون غيره فحكمه عدل ورحمة.
يعجز التاريخ أن يسجل مناقب الإسلام ودولته، ونحن إذ نستذكر تلك المشاهد من أيام عزنا وكرامتنا، فإن قلوبنا تعتصر اليوم كمداً، ونحن نستذكر في شهر رجب من كل عام ذكرى هدم دولة الخلافة، والحال أن العالم كله يشتكي ظلم الرأسمالية وجورها، فهلا سارعنا إلى العمل مع حزب التحرير لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، حتى ننقذ أنفسنا والبشرية جمعاء من تلك الصراعات الوحشية وإنهاء حالة الضياع التي يعاني منها العالم؟
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع