ما إن ظهرت بوادر الأزمة الروسية الأوكرانية وبدأت الحشودات العسكرية الروسية على الحدود الشرقية للقارة العجوز حتى دقت أجراس الإنذار في كل أرجاء أوروبا محذرة من خشية على نفسها قبل أن تنظر للضرر الواقع على غيرها (باستثناء بريطانيا).
فاندفع الرئيس الفرنسي ماكرون لمهاتفة نظيره الروسي بوتين لثنيه عن الدخول لأوكرانيا وتوجه شخصيا للقاء بوتين لقاء ظهر فيه الرئيس الفرنسي قزما، إلا أن محاولاته باءت بالفشل. وكذلك فعل المستشار الألماني باذلا وسعه في حث روسيا على عدم تصعيد الموقف والتوقف عن تنفيذ مخططات الدخول العسكري، وكذلك فعلت إيطاليا وغيرها، وكان وراء كل هذه المحاولات قناعات أوروبية بأن هذا الغزو سيعمل على تدمير تطلعات دول الاتحاد الأوروبي في الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، ويظهر لشعوب أوروبا مدى هشاشة الاتحاد وعدم مقدرته على مواجهة الأخطار المحدقة به.
وما إن دقت طبول الحرب معلنة دخول الجنود الروس إلى الأراضي الأوكرانية، حتى وجدت دول الاتحاد نفسها تحت ضغط الرأي العام الأوروبي بضرورة دعم أوكرانيا وفرض حزمة من العقوبات على روسيا طالت آثارها الشعوب الأوروبية قبل أن يصل ضررها إلى موسكو، وأظهرت الانقسامات الأوروبية، واندفع القادة في دول الاتحاد لإنعاش الحلف العسكري (الناتو) وإعادته للحياة مجددا بعد أن صرح بعض قادتهم سابقا بأن حلف شمال الأطلسي في حالة موت سريري.
وبذلك تكون الدول الأوروبية قد بلعت الطعم الأمريكي مع علمها بمذاقه المر.
لقد تأسس حلف شمال الأطلسي عام 1949 كحلف عسكري يهدف لتوفير الدفاع الجماعي المتبادل بين الدول الأعضاء عبر الوسائل العسكرية والسياسية في حال تعرض أي بلد عضو لأي تهديد خارجي، وليقف ضد تطلعات الاتحاد السوفيتي السابق وحلف وارسو للتمدد غربا.
إلا أن أمريكا وجدت في الحلف وسيلة لقمع التيارات القومية الأوروبية، وذراعاً يبقي الهيمنة الأمريكية على القارة العجوز ويمنعها من أية تطلعات للانعتاق منها.
ومع انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي وتفكك دول الاتحاد وإنهاء حلف وارسو، دخل حلف الناتو في متاهات البحث عن هوية جديدة تبرر سبب وجوده، وتعزز التطلعات الأوروبية نحو الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، هذه التطلعات التي مرت بمراحل عديدة عبر سنوات طوال بدأت باتحاد الفحم والصلب عام 1951 والذي أفضى لاتحاد أوروبي عام 1992، وإيجاد عملة موحدة بين دوله مع إلغاء الحدود فيما بينها، وتعالت الأصوات الداعية لتشكيل قوة أوروبية موحدة تعمل على المحافظة على المصالح الأوروبية بعيدا عن أمريكا، وإيجاد دستور أوروبي موحد.
إلا أنه وبنجاح أمريكا في جر روسيا للمستنقع الأوكراني الذي هيأته لاستنزاف روسيا وضرب علاقتها بالصين، كانت تتطلع لإعادة أوروبا لقبضتها، والزج بها في مواجهات تحقق إبقاء هيمنتها على العالم، وتستنزف اقتصادها وإمكاناتها، وتبقي شريان طاقتها بيدها، وتعيد الحياة لحلف الناتو كذراع عسكري بقيادتها ينفذ تطلعاتها، فما كان من دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تملك من أوراق القوة شيئا يذكر، إلا الاستجابة للمطالب الأمريكية والتي ظهرت في قمة الحلف المنعقدة يوم الأربعاء 29/06/2022 في مدريد في إسبانيا والتي أعلن فيها عن الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو المتضمنة تحول روسيا من دولة شريكة إلى أكبر تهديد مباشر، وليعتبر الصين تحديا لأمن الحلف ومصالحه وقيمه، محققا لأمريكا ما سعت إليه من جر روسيا لأوكرانيا، ومن ضرب كل تطلعات الاتحاد الأوروبي للانفكاك من هيمنتها، فارضة عليه في الوقت نفسه دفع أسعار مرتفعة للحصول على الغاز والنفط، بعد أن كانت تصله بسعر معقول من روسيا، مسببة موجة من التذمر العارم لدى الشعوب الأوروبية من ارتفاع الأسعار، وصاعدا بمؤشر التضخم لمستويات غير معهودة، ودافعا لموجة جديدة من اللجوء لدوله تستنزف اقتصادها، وفوق ذلك كله أظهر ما كان مخفيا تحت الطاولة من انقسامات ونعرات في هذا الاتحاد الهش، جاعلا من إبقاء حلف الناتو رأيا عاما ومطلبا للشعوب الأوروبية ليبقى ذراعا عسكريا بقيادة أمريكا تدفع فيه دول الاتحاد للمحافظة على الهيمنة الأمريكية على العالم، ومنذرا بتصدعات وانفكاكات تطال دول الاتحاد وأعضاءه.
فبعد أن كانت التطلعات الأوروبية تسعى للابتعاد عن الهيمنة الأمريكية، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتضع دول أوروبا في مواجهة روسيا ليتم استنزاف الجميع، ولتعمل دول الاتحاد تحت القبضة الأمريكية في احتواء الصين، ولتظهر مدى الضعف الذي وصلت له دول القارة العجوز وحاجتها لأمريكا، وإذعانها في الموافقة على زيادة القواعد العسكرية الأمريكية في دولها، وزيادة إنفاقها العسكري ليصل 2% من الناتج المحلي، والذي طالبت فيه أمريكا دول الاتحاد كثيرا، وعاملا على توسيع انتشار القوات الأمريكية وزيادة أعداد الجنود في دول الاتحاد الأوروبي.
هذا هو النظام الرأسمالي، نظام استعماري يقوم على التنافس وجعل الشعوب وقودا للصراعات، فلا يوجد فيه صديق دائم؛ بل القوي فيه يأكل الضعيف، والحروب والصراعات والأزمات أذرعه التي يدمر فيها الشعوب.
وسيبقى هذا الوضع قائما حتى يأذن الله بتحرك بدأت خيوط نوره تبدد ظلمة الرأسمالية الفاسدة، نور يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ينشر العدل والطمأنينة والرخاء لشعوب الأرض جميعا.
قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً﴾
بقلم: د. عبد الله ناصر - ولاية الأردن
رأيك في الموضوع