إنّ الناظر لوثيقة إعلان ومنهاج عمل مؤتمر بيجين العالمي الرابع والمعني بالمرأة، والذي انعقد في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1995م، يصاب بالدهشة والذهول من هول ما يرى في هذه الوثيقة الشيطانية، وكيف أنها قُدمت للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخمسين كي تتبناها وتعتمدها في صيغتها النهائية الصادرة عن المؤتمر المشؤوم، ولتصبح محلا لسن القوانين والتشريعات في ضوئها لدى جميع الدول المشاركة في المؤتمر.
والذي يثير الدهشة والذهول أن الوثيقة تقع في 162 صفحة، وأنها كتبت بنبرة استعلائية سيادية، وكأن كاتبها سيد العالم، والقيّم على نسائه، وأنه يملك التشريع المثالي للتعامل مع المرأة. وكذلك فإن منهجية صياغة الوثيقة توحي بالشمولية في التوصيف والمعالجات والإجراءات والنتائج، وهي مليئة بالأنفاس التشريعية والقانونية، ووضعت أهدافاً استراتيجية تسعى لتحقيقها ضمن برامج وإجراءات واسعة وفوق طموحة، قد تعجز عن تحقيقها أعظم الدول وأغناها.
أما إذا نظرنا إلى هذه الوثيقة من وجهة نظر الإسلام، فإنها تسقط عن مستوى الاعتبار والنظر، لمخالفتها الصريحة للأحكام الشرعية التي نظمت علاقة الرجل بالمرأة وما ينبثق عنها وما يترتب عليها، باعتبارها صادرة عن الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. ومن جهة أخرى فإنها صناعة غير إسلامية بامتياز، وتدخل في شؤون الحكم والتشريع الذي وضعه رب البشر للبشر، وهو القائل في محكم التنزيل: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾.
واليوم وبعد 25 عاماً من صدور تلك الوثيقة التي حملت زرعاً خبيثاً خرج نباته نكداً، فإن وضع المرأة في العالم قد ازداد سوءاً أضعافاً مضاعفة عما كان عليه قبل إعلان وثيقة بيجين، ولن يستطيع مهندسو وثيقة بيجين أو أي من القائمين عليها أو على أخواتها أو سلالاتها النجسة أن يثبتوا بالإحصائيات الدقيقة حجم إنجازاتهم الإيجابية كما زعموا، ونتحداهم إن كانوا يملكون الجرأة الكافية للاعتراف بالانتكاسات الفظيعة التي منيت بها المرأة في العالم، وما خسرته من أنوثتها وأمومتها وما تستحقه من الرعاية المناسبة. ولقد انعكس ذلك الحصاد المرّ على المرأة المسلمة على وجه الخصوص، حيث أصابها في مقتل عفتها وطهارتها، وجلب عليها الويلات، وجمع عليها مصائب الخروج غير الآمن من بيتها، وخلعها حجابها، وعرّضها لما يخدش حياءها ويجرح عفتها، وأفقدها حسن اتصالها بزوجها وأولادها ومحارمها، وأجبرها على سوء اتصالها بمن لا يرى فيها إلا المتعة وجني الأرباح المادية. وبهذا تكون وثيقة بيجين وما سبقها وما لحقها من وثائق واتفاقيات كسيداو وأمثالها، تكون قد أخرجت المرأة من نعيم العيش إلى شقائه، ومن حسن الرعاية إلى سوئها، ومن كونها أمّاً وربة بيت وعرضاً يجب أن يصان، إلى سلعة مبتذلة تباع وتشترى، وكوردةٍ جميلةٍ ذات رائحةٍ عبقة، يُستمتع بلونها ويُشم عطرها، ثم ترمى بعد أن تذبل وتفقد جاذبيتها "إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم"، هذا إن نجت ومن يتصل بها من الأمراض والأوبئة القاتلة.
والمتتبع لأحوال المرأة في العالم يرى، دون عناء البحث، كيف أن هذه الوثيقة البائسة لم تحقق الأهداف التي زعمت أنها وضعت لتحقيقها، وتم تبنيها كقوانين، وأنفق عليها الملايين. والدليل ما تواجهه المرأة من زيادة في التعرض للعنف والاغتصاب والتحرش والفقر وسوء التعليم وسوء الرعاية الصحية، بل وحتى البيع في سوق نخاسة النساء المقنّع والصريح، في مختلف مناطق العالم. وأرقام الإحصائيات الرسمية وغير الرسمية تعكس شيئاً يسيراً من أحوال المرأة المتردية في ظل الأنظمة الرأسمالية الجشعة. ويكفي للدلالة على الفشل الذريع في حماية المرأة أو الطفل - كما يزعمون - ما بات يعرف بصندوق المواليد الجدد (baby box)، وما أدراك ما صندوق المواليد؟! إنه اعتداء صارخ على أهم عمل من أعمال المرأة وهو الأمومة! جاء في موسوعة ويكيبيديا الحرة ما نصه: صندوق إيداع الطفل المتخلّى عنه أو حاضِنة الطفل كما قد تُترجم حرفياً إلى صندوق الطفل، وهو عبارة عن فتحة في الجدار أو صندوق مخصص لوضعِ الأطفال حديثي الولادة المتخلى عنهم أو اللقطاء بدلَ تركهم في أماكن أخرى قد تُشكّل خطراً على صحّتهم وحياتهم. انتشرت ظاهرةُ التخلي عن الأطفال حديثي الوِلادة في العصور الوسطى ثمّ برزت في القرنين 18 و19 ومعَ تزايد أعداد المتخلى عنهم في سلات المهملات أو قُرب أبواب المراكز الدينيّة؛ ظهرت فكرةُ صندوق إيداع الطفل المتخلى عنه وبالتحديدِ في عام 1952 للحدّ من مشكلة وفاة الرُضّع بسببِ تخلي أسرهم عنهم (وغالبا ما يكون المولود من السفاح نتيجة علاقات الفتيات الطائشة خارج إطار الأسرة). زادت شهرة هذه الفكرة تدريجياً ثم دخلت حيّز التنفيذ في عددٍ من الدول منذ عام 2000 وتُعدّ ألمانيا من بينِ الدول الرائدة في تطبيق هذهِ الفكرة حيثُ تتوفر على حوالي 100 صندوق لإيداع الأطفال في مُختلف أنحاء البِلاد. والأمر نفسه بالنسبة لباكستان التي تُشير إحصائيات عام 2006 على وضعها لـ300 صندوق طفل. تنتشرُ هذهِ الصناديق قُربَ المستشفيات والمراكز (الاجتماعية) أو على مستوى الكنائس وعادةً ما تكونُ على شاكِلة باب أو رف في جدار خارجي يُفتح يدوياً وبداخلهِ سرير رطب لينامَ فوقهُ الرضيع. تنصّ قوانين بعض الدول - على غِرار ألمانيا - على إمكانيّة إرجاع الطفل لوالدتهِ أو والدهِ في حالة ما طلبهُ أحدهما بعد ثمانية أسابيع وإن لم يَحدث ذلك فيُطرح في وقتٍ لاحق للتبنّي!
والقول الفصل في هذه الوثيقة وأمثالها يكمن في قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾، فالإسلام وحده هو الذي يحمل الخلاص للمرأة، منذ أن نزل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يرث الأرض ومن عليها، حيث يقدم لها وثيقة شاملة متكاملة، فيها حماية لها ورعاية، وضمانة مؤكدة بالميثاق الغليظ لحقوقها كإنسان لها مكانتها العظيمة في هذه الحياة الدنيا، ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾، ثم يوم القيامة تحقيقاً لوعد الله الذي لا يخلف الميعاد بدخول الجنة برحمة الله في الآخرة. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ولا يمكن تطبيق هذه الوثيقة الربانية إلا في دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والقائمة قريبا بإذن الله، وهي وحدها التي ستطبقها بنموذج فريد رائع لطالما عاشت المرأة بخير في ظله عبر قرون طويلة خلت.
رأيك في الموضوع