لأننا نقف أمام فشل ذريع في منع الإصابة أو وقف الوفيات حتى في أكثر الدول تقدما علميا في العالم، ولأننا نلمس لمس اليد عجز النظام الرأسمالي المسيطر على العالم، والذي طالما تبجح على العالم بخيلائه العسكري وأرصدته المالية الضخمة عن توفير الرعاية الصحية للمصابين، أو تطوير دواء مناسب لهذا الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة، ولأننا نرى الهلع العالمي تحت وطأة الإغلاقات والحجر الصحي الجماعي الذي طال مليارات البشر حول العالم، كان لزاما علينا أن نفكر في الأسباب التي أدت إلى حصول هذه الجائحة، وكذلك في حجم الإخفاق العالمي والهزيمة الجماعية التي لحقت بالدول الكبرى والصغرى على حد سواء في ظل الرأسمالية الغاشمة.
أولا: الأسباب التي أدت إلى حصول جائحة كورونا:
- اضطراب الغذاء العالمي، والذي ابتعد عن الفطرة السليمة وعن أقوات الأرض الطبيعية التي قدرها الله فيها.
- زيادة الإنتاج وسوء التخزين، فضلا عن سوء التوزيع.
- عدم مراعاة معايير النظافة لدى معظم سكان الأرض، سواء في أجسامهم أم في بيوتهم، أم في كيفية التخلص من النفايات والفضلات، رغم اهتماماتهم الزائدة بالبيئة العالمية ونسبة التلوث الناتج عن المصانع.
- الفوضى العارمة في العلاقات الجنسية التي تخالف الفطرة السوية وتعتدي على الأعراض والأجنة والمواليد، ما يعتبر من الفواحش المحرمة والجرائم الفظيعة بحق النوع الإنساني.
- طغيان القيمة المادية على باقي القيم، وتجاهل علاقة الأرض بالسماء، بل إنكار قدرة الله وأنه القاهر فوق عباده.
ثانيا: حجم الإخفاق العالمي والهزيمة العالمية أمام جندي صغير من جنود الله الكبير المتعال:
- انكشاف عوار النظام الرأسمالي في مجال رعاية الناس الصحية بل وإفلاسه.
- هلع البشر الزائد والذي أفضى إلى انتهاكات هائلة لحقوق الإنسان.
- إمعان الشركات الرأسمالية الكبرى في النظرة الربحية لمشاريع الأبحاث عن دواء مناسب.
- الاستهتار بأرواح الناس وخصوصا كبار السن عبر ما يعرف بمناعة القطيع.
- عدم الثقة المتبادل بين الشعوب وحكامها، ولو زعموا أنهم منتخبون منهم.
هذه هي الرأسمالية الجشعة البشعة، وهكذا تعرت وأفلست بعقيدتها وشريعتها أمام أول صدمة حقيقية وهي جائحة كورونا، ولم تغن عنها ترسانتها العسكرية الضخمة ولا مخزوناتها المالية الهائلة من الوباء شيئا، وصدق الله العظيم حين يقول في كتابه الكريم: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾.
أما الإسلام، وهو المبدأ الإلهي المتكامل عقيدة وشريعة، فإنه يضع الأسس الطيبة الطاهرة للعقيدة والنظام المنبثق عنها، ويهندس حياة البشر والشجر بدقة وعناية فائقتين، بحيث يحقق للناس السعادة في الدارين:
- يحل الطيبات ويحرم الخبائث. ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾.
- ينظم الإنتاج، ويحسن التخزين والتوزيع، ويمنع الاحتكار.
- يوجب النظافة ويحض عليها، ويراعي انتشار الناس على الأرض بشكل صحي.
- ينظم العلاقات الجنسية تنظيما طاهرا نقيا، ويحرم الفواحش التي تسبب الأمراض والأوبئة.
- يوجد التوازن بين تحقيق القيم المتنوعة دون طغيان قيمة على أخرى.
- يوفر الرعاية الصحية الكاملة وفق أقصى الطاقة لكل من يحمل التابعية الإسلامية.
- يضع المعايير الشرعية والصحية لمواجهة الجوائح والنكبات، ويرسخ الطمأنينة في نفوس الناس بحسن التوكل على الله وتقبل قضاء الله وقدره.
- المحافظة على صحة الناس، فهم أمام الرعاية سواء بغض النظر عن الفئات العمرية أو الجنس أو اللون أو الدين أو العرق.
- ترسيخ علاقة الأرض بالسماء، والاجتهاد في العبادة والاستغفار والتوبة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه، وخصوصا عند الكوارث والنكبات والجوائح، فذلك أدعى لأن ينظر الله إلى عباده بالرحمة والشفعة ورفع البلاء.
- السمع والطاعة للحاكم المبايع، وهذا يعكس اللُّحمة بين الشعوب والحاكم، ويعزز الثقة المتبادلة.
إن الرأسمالية قد سقطت في أول اختبار حاسم لها، كما سقطت من قبل الاشتراكية مع أول هزة، وكلاهما قد أظهر الفساد في الأرض، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. فحكام العالم اليوم، هم سبب شقاء البشرية جمعاء.
وقد ظهر هذا جليا في كيفية معالجتهم لتفشي وباء كورونا، حيث تكتمت الصين وما كان ينبغي لها أن تفعل، وتلكأت الدول الأوروبية وأمريكا في القيام بما يلزم، وما كان لها أن تتلكأ، بل طغت رأسماليتها البشعة على كل إجراء رعوي، حيث شرعوا في التخلص من كبار السن كي يستمتع الباقي بالحياة الدنيا كما تستمتع البهائم!
أما العلاج الصحيح لهذا المرض فهو كما جاء في شرع الله سبحانه بأن تتابع الدولة المرض من بدايته وتعمل على حصر المرض في مكان نشوئه ابتداءً ويستمر الأصحاء في المناطق الأخرى في العمل والإنتاج. روى البخاري في صحيحه عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا»، وفي حديث آخر عند البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ»، وفي رواية أخرى للبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ».
فهذا نوع من الحجر الصحي في دولة كانت متقدمة على جميع الدول، وفي دولة حضارية من الطراز الأول قائدها نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو يطبق الإسلام ليكون قدوة حسنة في التطبيق. ذكر ابن حجر في فتح الباري أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرْغ بلغه أن الوباء وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ» فرجع عمر بن الخطاب بالمسلمين.
وعليه فإن على الدولة في الإسلام حصر المرض في مكانه وأن يبقى سكانه فيه ولا يدخل عليهم سكان آخرون... وأن تقوم الدولة بواجبها الشرعي فهي دولة رعاية وأمانة، فكما تقوم بهذه الإجراءات عند تفشي الأوبئة المعدية تقوم بتأمين الرعاية الصحية من التطبيب والدواء مجانا لكافة رعاياها وتقيم المستشفيات والمختبرات الطبية وغيرها من الحاجيات الأساسية لرعايا الدولة كالتعليم وحفظ الأمن.
هكذا يكون الإجراء الصحيح بأن يعزل المرض المعدي في مكانه ويحجر على المرضى صحياً ويتابعوا بالرعاية والعلاج مجاناً، ويستمر الأصحاء في عملهم وتستمر الحياة الاجتماعية والاقتصادية كما كانت عليه قبل المرض المعدي لا أن تتوقف حياة الناس العامة ويعزلوا في البيوت ومن ثم تُشل الحياة الاقتصادية أو تكاد فتزداد الأزمة استفحالاً وتظهر مشكلات أخرى...
رأيك في الموضوع