(1)
مع ظهور فيروس كورونا المستجد، وكيف تعاملت الحكومات في العالم مع هكذا وباء، انكشفت تلك الحكومات وتعرّت تماما أمام شعوبها، وتبين للكثيرين مدى سوء الرعاية الصحية لتلك الدول، وكيف أنها تهتم في المقام الأول بمصالحها ومصالح طبقة المتنفذين ورجال الأعمال والشركات الكبرى، بينما جاءت حياة الناس وصحتهم في المرتبة الأخيرة. فالأزمة الاقتصادية التي تسبب بها أو ساهم في تفاقمها الفيروس، ومحاولة استفادة شركات الأدوية الكبرى من هذا الوباء أو تلك الجائحة، هي ما يهيمن على العقلية الحاكمة بشكل كبير.
ولعل أبرز ما عرّاه فيروس كورونا هو النظام الرأسمالي المتوحش، الذي يسعى إلى مراكمة مليارات الدولارات في جيوب قلة رأسمالية متنفذة، يملكون ما تملكه نصف البشرية جمعاء! فالإنفاق العالمي على الصحة لا يتجاوز 40 دولارا للفرد في العام في البلدان الفقيرة، وحوالي 1000 دولار في أغنى بلدان العالم أي أمريكا. وحتى هذا الإنفاق على الصحة ليس معيارا كافيا، فرغم أن أمريكا تنفق 17% من دخلها القومي على الصحة، فإن نسبة من لديهم تأمين صحي شامل فيها لا يتجاوز 30%، لأن معظم الإنفاق يذهب لجيوب شركات التأمين وليس للناس وصحتهم، وحتى إذا كنت تمتلك تأميناً صحياً في أمريكا ويمكنك إجراء فحص كورونا مجانا، فإن تكاليف العلاج ستتراوح ما بين 10 إلى 20 ألف دولار، والعديد من خطط التأمين الصحي تتضمن نسبة يتحملها المريض والتي يتراوح معدلها ما بين 15 إلى 20 في المائة. وأسعار الخدمات العلاجية التي تفرضها الشركات خيالية، فمليارات الدولارات تذهب لشركات التأمين والأدوية، وكلها لم تستطع حتى الآن اكتشاف لقاح واقٍ من هذا الفيروس الدقيق والخطير.
تنفق الدول مليارات الدولارات سنويا على التسلح وأجهزة الأمن المتعددة، وقد تضاعف الإنفاق على الأسلحة بشكل جنوني في السنوات الأخيرة، وكل ذلك لا قيمة له في وجه فيروس دقيق، لا يفرق بين إنسان فقير في شوارع دلهي، وبين أثرى أثرياء العالم من أصحاب المليارات في كاليفورنيا أو نيويورك. كما لا يفرق بين الحكام والملوك والوزراء والمشاهير وبين الناس العاديين البسطاء. فماذا سيستفيد الناس من ترسانة الأسلحة المكدسة في مخازن تلك الدول في مواجهة هكذا جائحة؟!
لقد اكتشف الأمريكيون عدم توفر أدوات طبية أساسية وبسيطة، لا تحتاج تكنولوجيا معقدة لإنتاجها أو توزيعها أو استخدامها في مستشفياتهم. يؤكد آدم جافني، من كلية الطب بجامعة هارفارد ورئيس منظمة "الأطباء من أجل برنامج وطني للصحة"، أن (هذا ليس نظام رعاية صحية، إنه فوضى مزرية. مرة أخرى، هناك أنساق متباعدة وغير متجانسة حسب الطريقة التي ندفع بموجبها أقساط الرعاية الصحية، فضلاً عن المنظومات المختلفة لإدارة مستشفياتنا: بعضها غني وبعضها فقير، كل منها يعيل نفسه، ومنغلقة على ذواتها بسبب الانحسار في نظام منافسة السوق). وقالت جيسيكا بيل، التي تساعد في تجميع مؤشر عالمي للأمن الصحي لدى منظمة "مبادرة التهديد النووي"، وهي منظمة غير ربحية: (إن الولايات المتحدة لديها قدرات تشخيصية ممتازة في المجال الطبي، ولكن ما ينقصها حقاً هو الوصول إلى الرعاية الصحية، وخاصة للعاملين في الرعاية الصحية أنفسهم). فيما قال ديفيد برات، ممثل الصحة والسلامة في جمعية الممرضات بولاية نيويورك: (تنامى إلى علمنا أن الممرضات يضطررن للقتال من أجل الحصول على أجهزة التنفس التي يحتجنها على الرغم من أن القلق الأكبر يكمن فيما سيحدث عندما يُصاب هؤلاء الممرضون بالفيروس).
لقد ترك العالم قطاع الصحة في يد الشركات العابرة للقارات، التي سيطرت على صناعة الأدوية العالمية لتحقق أرباحا تفوق شركات النفط وتقترب من أرباح الشركات العاملة في المجال الرقمي مثل ميكروسوفت. وانتقلت لاحقا إلى تشجيع القطاع الخاص في الصحة بمساعدة حكومات على حساب القطاع العمومي. وتعمل جاهدة للحصول على البيانات العالمية لصحة الناس لتكمل برنامجها التجاري الجشع على حساب الصحة العالمية. وها هي شعوب دول مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، تتعرض للموت بشكل فظيع، لتكتشف ضعف القطاع العام حاليا في مواجهة فيروس كورونا نتيجة سياسات الخصخصة التي طبقت طوال العقدين الأخيرين. فكثير من الحكومات تلكأت عن تخصيص موارد لمكافحة فيروس كورونا عندما بدأ بالانتشار، وسارعت لتخصيص عشرات المليارات لدعم البنوك والشركات الاحتكارية عندما انهارت سوق الأسهم مهددة معبد الرأسمالية العالمية.
حين ضجت صحف ألمانية بفضيحة ترامب مع شركة كيورفاك التي حاول إغراء مديرها التنفيذي بنقل الشركة إلى أمريكا وإنتاج لقاح مضاد لكورونا تعمل عليه، فقد عرض ترامب مليار دولار فورية على مدير الشركة الذي استضافه في البيت الأبيض مقابل إنتاج لقاح للأمريكيين حصراً. لكن سرعان ما تبين أن الرجل والجهة النافذة التي أبقته في الحكم وكان بإمكانها أن تطيح به، كان هدفهم من الاستيلاء على الشركة الألمانية هو مالياً وليس إنسانياً. فهم ينوون احتكار اللقاحات ليحققوا أرباحا تاريخية تعوض خسائرهم في كثير من مجالات الاستثمار التي ضربها انتشار فيروس كورونا.
كما صرح ترامب أنه (مع خيار إنهاء حظر التجول ومع العودة إلى النشاط التجاري، لأن خسائر الإقفال الشامل أكبر من خسائر كورونا)، مما يعني بأن حياة مليوني أمريكي هي كلفة أرخص من خسارة تريليوني دولار إذا استمر الإقفال والحظر!
وظفت إدارة ترامب في لجنة مكافحة وباء كورونا في البيت الأبيض خبير علاقات عامة كان ينشط على رأس لوبي ضاغط في أروقة الكونغرس لتمرير قوانين تناسب مصلحة شركة "غيلد" الدوائية التي كانت تقدم له أجورا تفوق المليون دولار سنويا. سعى ذلك الخبير لدى ترامب لانتزاع دعم مالي لشركة غيلد من دافعي الضرائب، ثم دفع إدارة ترامب لإصدار قرار من إدارة الأغذية والأدوية منحت بموجبه شركة غيلد اعترافا بعقار يعالج مرضى كورونا على أنه (يخضع لقانون العقار اليتيم)، ولن يباع هذا الدواء إلا من تصنيع الشركة، والشركة لن تمنح حق تصنيعه لأي مصنع آخر. والأخطر من ذلك أن ترامب شرع قرارات الشركة بمنح دوائها صفة قانونية عبر (الدواء اليتيم)، الذي يعني أن من حق الشركة أن تبيعه لمن تشاء بالسعر الذي تشاء، ونفس الشركة أعلنت فورا أنها باعت أكثر مما تستطيع أن تصنع، ويقول جيمس لاف مدير الشركة أن هذا الأمر هدفه رفع سعر المنتج، فالشركة تبيع دواء للسيدا بخمسة آلاف دولار بينما كلفته ٦ دولارات فقط في الهند والصين، لكن وضعية (العقار اليتيم) تمنع إدخال دواء أجنبي أو تصنيع دواء مماثل في أمريكا.
واعتبر جيمس لاف أن أسهم شركة غيلد صعدت بشكل صاروخي وحققت أرباحا مذهلة، ولمحت صحف أمريكية عدة إلى أن ترامب اشترى أسهم شركة غيلد قبل أسابيع. ويرفض حتى اللحظة مناشدات أطباء وعلماء بتحويل مصانع كبرى إلى حالة الحرب وجعلها بموجب قانون الحرب تنتج ما تحتاجه القطاعات الصحية، فكل تلك المعدات والأدوية تشهد نقصا مرعبا في أمريكا. وهذا يعني أن الشعب الأمريكي لن يحصل على الدواء لأنه سيباع لمن يستطيع دفع ثمنه. ولن تسمح إدارة ترامب بإدخال أدوية هندية منسوخة عنه وأرخص بكثير.
هذه هي أكبر دولة في العالم، زعيمة العالم الرأسمالي الذي انبهر بها البعض ورأى فيها النموذج الذي يجب أن يحتذى، دولة رأس المال الذي يحكم من أجل تكديس المال لصالح فئة قليلة من الناس، لا يهمها سوى تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المادية حتى ولو كان على حساب صحة الناس وحياتهم، لقد انكشفت أمريكا لدى الكثير من شعوب العالم عندما استعرضت عضلاتها واستخدمت آلتها الحربية المدمرة تجاه شعوب لا حول لها ولا قوة، من أجل تحقيق مصالحها ولفرض هيمنتها على العالم بداية من ضرب اليابان بالقنابل النووية مرورا بفيتنام وانتهاء بتدمير أفغانستان والعراق، وها هي اليوم تنكشف أمام شعبها، يعرّيها فيروس كورونا ويكشفها أمام شعبها الذي يعاني من تداعيات هذا الفيروس.
بقلم: الأستاذ حامد عبد العزيز
رأيك في الموضوع