تُعرّف العلمانية بأنّها فصل الدين عن الدولة، أي فصله عن السياسة وعن الحياة، فهي لا دينية المنشأ والتوجّه، فتُنكر أي دور للدين في القوانين العامة، وفي الأحكام التشريعية التي تُنظّم شؤون المجتمع، ويُفسّرون تطورها اعتماداً على ما ينسبونه لقول المسيح عليه السلام: "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
لكنّ هذا الفصل الصارم للدين عن الحياة هو فصل يتعلّق بالأنظمة والقوانين والتشريعات فقط، ولا يتعلّق بالثقافة والموروثات الفلسفية، فالروح الصليبية الحاقدة في الثقافة والحضارة الغربية للشعوب النصرانية مُتغلغلة في أعماق ثقافتهم تماماً، كتغلغل الثقافة الوثنية اليونانية والرومانية في الحضارة والثقافة الغربية.
والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾،وقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فهذه الآيات الكريمة تُبيّن لنا حقيقة النظرة الحاقدة الصليبية المزروعة في أعماق عقلية النصارى تجاه المسلمين، وهي موجودة لديهم بغض النظر عن المبدأ الذي يعتنقونه سواء أكان اشتراكياً أم رأسمالياً، أم حتى كانوا بلا مبدأ، فهذا الحقد الصليبي الذي تتميّز به عقلياتهم هو في الواقع جزء من ثقافتهم العامّة، وتكوينهم الفلسفي، وهو عنصر مُشترك لجميع أفرادهم.
ولهذا كان الصراع بين الإسلام وبين النصرانية صراعاً فكرياً دائمياً، سواء أكان ذلك قبل أنْ يعتنق النصارى الرأسمالية، أو بعد أنْ اعتنقوها، فالحقد الصليبي عندهم قائم ودائم ومُمتد إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها، وهو لا يتوقف ولا ينقطع إلا بدخولهم في ذمة المسلمين، أو دخولهم في الإسلام.
والتاريخ والحاضر كلاهما يشهدان على هذه الحقيقة، وهي أنّ الحقد الصليبي ضدّ الإسلام إنّما هو جزء من ثقافة النصارى قبل ظهور العلمانية، وبعد ظهورها، فالحملات الصليبية الأربع عشرة، وما صاحبها من قتل وذبح للمسلمين، كقتل سبعين ألفاً من المسلمين في بيت المقدس حتى خاضت الخيول في دمائهم بفتوى من بابا الفاتيكان هو أمرٌ ثابتٌ ومعروف، ومحاكم التفتيش في الأندلس والفلبين وما جرى فيها من إيقاع أشنع صنوف التعذيب بحق المُسلمين ما زالت آثارها شاهدة على وحشيتها.
وفي العصر الحديث لو استعرضنا بعض الأحداث الصليبية الحاقدة التي تمّ توثيقها للتأكيد على مصداقية ما نقول من مثل:
قول اللورد ألنبي القائد العسكري البريطاني الذي قال عند احتلال قواته لمدينة القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ووقوف الجنرال الفرنسي عندما احتلت قواته مدينة دمشق أمام قبر صلاح الدين وركله له وقوله:"قم يا صلاح الدين ها نحن قد عُدنا"، وإعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عن شنّه "حرباً صليبية" على العراق، وزرع الدول النصرانية كيان يهود في فلسطين ليكون خنجراً صليبياً مسموماً في خاصرة المسلمين، وإعلان ترامب عن منح هضبة الجولان لكيان يهود، وتصريحات وزير الخارجية الأمريكي الحالي جورج بومبيو من أنّ الرئيس الأمريكي ترامب قد يكون: "هديةً من الربّ لإنقاذ اليهود"، و(تقوية تيّار اليمين المسيحي) في أمريكا ليكون عنصراً فاعلاً ومؤثّراً في دعم كيان يهود، ونقل ترامب السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، وتشجيع السفير الأمريكي لدى كيان يهود المستوطنين على الاستيطان في الضفة الغربية، وقتل أمريكا المستمر للمسلمين المدنيين بقصفهم بالطائرات في الصومال وأفغانستان والعراق وسوريا واليمن وغيرها من بلاد المسلمين، وارتكابها المجازر تلو المجازر بحق الأبرياء بذريعة محاربة ما يُسمّى (بالإرهاب)، والتي كان آخرها إحراق قنابل طائراتها لقرية الباغوز في منطقة دير الزور، والتي قصفت فيها الطائرات الأمريكية الناس بقنابل الفوسفور، وقتلت ثلاثة آلاف طفل وامرأة وعجوز في ثلاثة أيام فقط، وتناثرت فيها جثث الضحايا إلى أشلاء مُمزّقة ومُحترقة.
إنّ هذه مُجرد عيّنات من مجازر الصليبيين ضد المسلمين في الماضي والحاضر، وهي تعكس الثقافة النصرانية المحشوة بالحقد الصليبي المُتوارث عبر الأجيال.
ومن الأمثلة السياسية على وجود الحقد الصليبي لدى الغربيين النصارى رفض إدخال تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، واعتراف السياسيين الأوروبيين بأنّ أوروبا هي نادٍ للدول النصرانية فقط.
إنّ العلمانية اليوم هي الامتداد الثقافي الطبيعي للنصرانية الصليبية، ولسان حال العلمانيين الغربيين يقول ما ردّده زعماء الاستعمار العسكري الفرنسي في الجزائر بأنّ: "أوروبا لن تنتصر على المسلمين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، لذلك كان واجباً علينا إزالة القرآن من الوجود، واقتلاع اللغة العربية من الألسن".
والعلمانية اليوم ليست مُعادية للإسلام بشدة وحسب، بل هي أيضاً مُصدّرةً للمسلمين كل أنواع الرذائل والفواحش، ومنها الشذوذ الجنسي الذي باتوا يعترفون به حتى في الكنائس، وارتكاسهم إلى مُستوى البهيمية، وهو ما تأنف حتى عن فعله الحيوانات.
فالفكر العلماني اليوم حقيقةً هو الذي يُغذي العقول الغربية بالعداء الصليبي، وهو الذي يُشجّع الحملات التبشيرية والتنصيرية، وهو الذي يُساند الوثنيين ضد المسلمين في قارتي آسيا وأفريقيا، وهو الذي يتحالف مع بقايا الشيوعيين ضد المسلمين كما حصل مع ما يُسمّى بقوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها القوات الأمريكية بكل أنواع الدعم.
وإنّ العلمانيين العرب لهم أشدّ سوءاً وبؤساً من العلمانيين الغربيين، وذلك لكونهم مُجرد أذناب للعلمانيين النصارى، ولأنّهم يُعادون شعوبهم الإسلامية، تأسياً بمعاداة أسيادهم من علمانيي أمريكا وأوروبا للمسلمين، ولكونهم انسلخوا من الثقافة الإسلامية وهي ثقافة شعوبهم، وارتموا في أحضان أعداء الأمّة.
رأيك في الموضوع