إن أهم المطالب عند الجموع الثائرة في السودان والجزائر؛ هي الخلاص من الظلم وأسبابه وتوابعه ورجالاته، وتحقيق العدل بجميع أشكاله؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهل سلكت هذه الجموع الرافضة للذل والظلم طرق الخلاص من ذلك، لتحقق الرفعة والعدل؟
الناظر والمتابع لمعظم مطالب الثائرين الرافضين للذل والظلم في الساحات والميادين، وفي أجهزة الإعلام بأنواعها، وفي المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، الناظر لمعظم ذلك وللأسف يرى أن هذه الجموع تطالب بدولة مدنية، وتطالب بالحرية، وبالتخلص من العسكر؛ ليحل محلهم مدنيون في الحكم؛ من خارج العسكر، وأن تكون وظيفة العسكر حماية الثورة ومكتسباتها، فهل تحقق هذه الأفكار والمطالب ما تصبو إليه الشعوب أولا؟ وهل تضمن عدم وقوعها في الحفر نفسها التي تحاول الخروج منها؟ وماذا عليها أن تفعل لتتخلص من الظلم أولا، ولتضمن عدم الرجوع إلى الوراء، أو إلى ظلمٍ أشد؛ كما حصل في مصر وتونس وليبيا والشام؟
الله سبحانه وتعالى علمنا فقال: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109]، وقال سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123-124]، ورسوله بين لنا فقال e: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ (أي الطريق الواضحة البينة)، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ» رواه الإمام أحمد.
وقد صدق الله ورسوله فيما قالا وأخبرا، فلو نظرنا إلى وجه الأرض جميعا، وليس فقط إلى بلاد المسلمين، لو نظرنا إلى أوروبا وأمريكا؛ التي تتفاخر بالرقي والتقدم العلمي والمدنية، هل نجد أن الشعوب في هذه الدول قد نالت حريتها حقيقة، وهل نجدها قد حققت العدالة والطمأنينة؛ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع؟
فلو نظرنا إلى الواقع الموجود - عدا عن الناحية الفكرية السقيمة - لرأينا الظلم بأبشع صوره، والتظلم من هذا الظلم قد طفا إلى السطح بمظاهر عدة؛ لدرجة أن الجموع قد سارت في ألف مدينة سنة 2011؛ في أوروبا وأمريكا تطالب بإلغاء وولستريت، ومراكز المال والأعمال، ولرأينا أن الأزمات تعصف بأوروبا وأمريكا على السواء، ولم تتعاف منها منذ نشأة النظام الرأسمالي، ولرأينا حالات الانتحار بالآلاف في أرقى دول أوروبا، والقتل أيضا بلا سبب بالآلاف في كل شهر، ولرأينا طبقة من الرأسماليين لا تتجاوز 2%؛ تتحكم بحياة الناس السياسية والاقتصادية، ولرأينا الجموع في فرنسا تجوب الشوارع منذ أشهر؛ تطالب برفع الظلم بسبب القوانين المدنية، وبسبب التحكمات، ولرأينا الدول تتفلت من الاتحادات؛ كما هو حاصل مع بريطانيا هذه الأيام، وكما هو حاصل مع بعض الولايات في أمريكا؛ حيث تهدد بالانفصال...
أما الناحية الفكرية؛ فيكفي أن نقول فيها أمراً مختصرا بسيطا؛ يفهمه العامي والمتعلم وهو: أن النظام الرأسمالي القائم على الحريات الأربع، والمبني على فكرة فصل الدين عن الحياة، هذا النظام كان نتيجة ردة فعل غرائزية بسبب ظلم الكنيسة ورجال الدين، فكان إطلاق الحريات ضد عبودية الكنيسة؛ فوقعوا في عبودية الهوى والعقول القاصرة، وكانت حقوق الإنسان لحماية الفرد من الجماعة؛ بسبب ظلم الكنيسة ورجال الدين كذلك؛ أي بسبب طغيان الجماعة على الفرد حسب زعمهم.
فهل يعقل بعد كل هذا وذاك أن نجد من أبناء المسلمين؛ أصحاب الهدى والاستقامة والرشاد من يقول: أريد الحرية والدولة المدنية القائمة على النظام المدني الديمقراطي؟ هل يعقل أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! هل يعقل أن يبحث من يحمل الماء الزلال الصافي عن الماء الآسن النتن، ومكبات النفايات؟! هل يعقل أن نرى النار ولهيبها، فنترك الظل والشجر الوارف لنرمي أنفسنا فيها؟!
إن الغريب في أمر الثائرين أنهم مسلمون أولا؛ يدينون بالوحدانية لله عز وجل، ويرفضون الكفر والكافرين ويقرؤون القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويحجون البيت ويصومون رمضان... ثم ينطلي عليهم الأمر؛ فيطالبوا بالدولة المدنية؛ ظنا منهم أنها طريق النجاة! تماما كمن يجري خلف سراب خادع كاذب، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ بل وجد العنت والتعب والشقاء. وكما قال الشاعر: ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها ** إن السفينة لا تجري على اليبس. وقال: كالعيس في البيداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمولُ.
فقرآننا يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: 36]، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن الدولة المدنية والحريات؛ تخالف دين الإسلام مخالفة كلية، وقد عرفوا الدولة المدنية فقالوا: هي الدولة التي تمثلها إرادة المجتمع، وكونها دولة قانون، وانطلاقها من نظام مدني يضمن الحريات، ويقبل التعددية وقبول الآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساسا في الحقوق والواجبات؛ لجميع المواطنين فيها، وأخيرا التزامها بالديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة. فلا يوجد في الدولة المدنية تحكيم للقرآن؛ عدا عن تحكيمها للقوانين المدنية وإطلاقها للحريات.
إنه وللأسف لم تأخذ الشعوب الثائرة في السودان والجزائر الدرس مما جرى في بلاد أخرى، بل مدت يدها إلى الجحر نفسه الذي لدغ منه من سبقوها، ولم تسمع نداء ربها وهو يقول: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، ولم تسمع وصية رسولها عليه الصلاة والسلام وهو يقول: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» رواه البخاري.
وفي الختام ننصح إخوتنا في السودان والجزائر فنقول: (إن النظام الوحيد الذي جلب لكم الخير، ودفع عنكم الذل والظلم، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس خلال ثلاثة عشر قرنا هو فقط نظام الإسلام؛ في ظل دولة الإسلام. وعندما كان يغيب هذا النظام أو يضعف كان يحل عليكم الذل والظلم والجهل، والتردي إلى أسفل، ويغزوكم المستعمرون من كل اتجاه. لذلك عليكم بدينكم المتمثل بقرآنكم وسنة نبيكم عليه الصلاة والسلام... فلتكن هي مطلبكم الوحيد، ولا شيء غيره.. قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24]
رأيك في الموضوع