في السنوات الأخيرة؛ وخاصة بعد صحوة الأمة الفكرية، وبروز التيارات الإسلامية؛ بشكل فاعل وكاسح، في الساحة السياسية. وبعد مرحلة الثورات التي صاحبت صحوة الأمة على واقعها المرير، وانتفاضتها ضد سطوة الأوساط السياسية في بلادها، أخذت الأنظمة المتحكمة في رقاب المسلمين؛ تضيف أسلوبا جديدا من أساليب محاولات إجهاض العمل الإسلامي، وحرف مساره الصحيح للتخلص من الظلم والاستعباد، وللارتقاء بالأمة الإسلامية كما يجب أن تكون. هذا الأسلوب هو طرح فكرة الانتخابات في الساحات السياسية، وخاصة البلاد المنتفضة والثائرة في البلاد الإسلامية؛ كما جرى في مصر الكنانة، وتونس الخضراء، وكما يحاول حكام الجزائر هذه الأيام الالتفاف على مطالب الجموع الثائرة ضد سطوة النظام وفساده؛ بطرح موضوع الحوار الوطني، ثم الانتخابات في ظل الفساد، فهل تُمكّن الانتخابات الشعوبَ المظلومة المقهورة من إزاحة الظلم عن رقابها، وكيف يُضلَّل المسلمون بهذا الأسلوب الماكر؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: الأصل في الانتخاب أنه انتقاء الأفضل من مجموعة خيارات؛ جاء في الصحاح للجوهري: (الانتخاب الاختيار.. ويقال جاء في نخب أصحابه؛ أي خيارهم)، والانتخاب في موضوع الحكم والإدارة هو عملية انتقاء للأفضل من مجموعة أشخاص، ليقوموا نيابة عن الناس بتطبيق الأحكام الخاصة بالحكم والإدارة؛ أي ليقوموا بالرعاية المنوطة بهم؛ حسب الفكر الذي يحملونه، وحسب الأحكام المستندة إلى هذا الفكر. والشريعة الإسلامية لها أحكام متميزة في موضوع الانتخاب والاختيار؛ تختلف عن النظم الغربية، وعن النظم المهجنة اللقيطة المطبقة في البلاد الإسلامية، وهي قائمة على حرية الاختيار دون تضييق ولا إكراه، ولكل شخص الحق في الترشح والانتخاب إذا رأى في نفسه كفاءة أو زكّاهُ غيره من المسلمين، وشرط ذلك كله أن يكون فكر الإسلام وأحكامه؛ هو الأساس في الأمر المراد له الانتخاب. أما كيف يتم الاحتواء، وعملية التضليل، وحرف المسار في البلاد الإسلامية بالانتخابات؛ وكيف يرسخ الفساد القديم، ويضاف إليه فساد جديد عن طريق البرلمانات المنتخبة؛ فإن هذه الأنظمة تقوم بالخديعة والمكر والتضليل بأمور كثيرة منها:
1- إشغال الناس، وامتصاص نقمتهم على الزمر الحاكمة بأُلهية الانتخابات.. حيث ينشغل الناس عن السبب الحقيقي للفساد بموضوع الانتخابات؛ الذي رسمته الزمر الحاكمة، ورسمت قوانينه وطريقته.
2- زرع الفتن في المجتمع؛ عندما يتنافس الناس على الكراسي والمناصب، ومن أجل الوصول إلى كرسي معوجة قوائمه تحمل أرجله الزمر الفاسدة في بلاد المسلمين، وتحاول الأنظمة وأجهزة مخابراتها المنتشرة هنا وهناك؛ أن تشعل نار الفتن بين الجماعات المتنافسة؛ إما عن طريق بث الدعايات المغرضة، أو عن طريق التخريب والقتل، والتهديدات المصطنعة.
3- إن مشاركة شرائح المجتمع عن طريق الانتخاب للزمرة الحاكمة مع بقائها في فسادها وطغيانها؛ هو ترسيخ لهذا الفساد وإطالة لعمره. وكذلك إطالة لعمر قادة الجيش المقربين من النظم الفاسدة الداعمة لها. فالأصل أن لا يُشارك الفساد في فساده، حتى يخلع أو يتنحى جانبا عن رقاب الناس.
4- ترسيخ القوانين العلمانية القديمة، وإضافة قوانين جديدة في مكافحة (الإرهاب)، والانحلال من القيم الإسلامية، وإباحة الخمور والشذوذ الجنسي. وربط البلاد عن طريق المنتخبين الجدد بالقروض الدولية، وإضفاء الشرعية على سرقة الأموال بطريقة خبيثة مبرمجة ومقننة.
5- إيجاد ما يسمى بالمعارضة عن طريق البرلمانات المنتخبة فيترسخ الفساد، وتقوى شوكته، ويكون مدعوما وشرعيا حسب زعمهم. أما من يصل إلى الرئاسة؛ مع بقاء الفساد كما هو في جذوره، فلا يلبث أن يسير في ركاب الفساد والقوانين الدولية الإجرامية.
6- زرع اليأس، وعدم الثقة بالحراك الشعبي، والثورة ضد الطغم الفاسدة. وذلك عندما يرى الناس ممثليهم قد ساروا في ركاب الفساد، وصاروا جزءاً منه. ويصبح قادة الأحزاب الجدد في مرمى العمل الثوري الجديد. فتتوسع دائرة الفساد لتشمل شريحة واسعة من المجتمع؛ بدل أن تنحصر في النظام وزمرته؛ وهذا يخفف الضغوط الجماهيرية والنقمة عليه.
هذه هي الأمور العامة التي يجري تضليل الناس بها، وصرفهم عن المقصد الأساس؛ وهو خلع الفساد فتكون الانتخابات أداة لمشاركة الفساد والتغطية على جرائمه؛ بدل خلعه واستبداله.
ففي مصر الكنانة اجتمعت حشود كبيرة في الجمعة المليونية لتطبيق الشريعة (9/11/2012)، وأصبح تطبيق الشريعة مطلبا بعد أن تنازل مبارك عن هيبته، ونزل عن عرشه. فما كان من النظام المجرم إلا أن أوجد خديعة الانتخابات فامتص نقمة الجماهير، وحرف مسارها، وجعل من الممثلين عن الناس شركاء في فسادها. ثم كان ما كان من زرع الفتنة، وقتل الناس وإنهاء الثورة الجماهيرية العارمة لخلع الفساد من جذوره. وفي تونس حصل الأمر نفسه وأوقعوا التيار الإسلامي في خديعة الانتخابات؛ فأصبح شريكا للنظام مساندا له في فساده، ويغطي على جرائمه الجديدة وسرقاته، وارتهانه لصندوق النقد الدولي.
واليوم يريدون خديعة أهل الجزائر بالطريقة نفسها التي خدع بها أهل الكنانة وأهل تونس. فما يطرح اليوم من حوار وطني وإخراج ممثلين عن الناس كمقدمة لمرحلة انتخابات قادمة هو خديعة كبرى؛ تحول دون خلع الفساد، وتمكنه من الاستمرار في فساده، وإبقاء جذور الفساد وقوانينه على ما هي عليه. فالحذرَ الحذرَ يا أهل الجزائر، أيها الثائرون في وجه الظلم والشر والفساد. وكونوا على وعي بما يريده هذا النظام المجرم السفاح، واجعلوا هدفكم الأول وقبل أي عمل آخر؛ خلع النظام من جذوره، وعدم مشاركته أو إجراء انتخابات في ظل فساده، فـ«لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» كما قال e، والمسلم (ليس بالخبّ، ولا الخبّ يخدعه) كما قال الفاروق رضي الله عنه.
وفي الختام نقول: إن على الأمة الإسلامية أن لا تنخدع بأكذوبة الانتخابات، ولا تنشغل بها، ولا تدخل فيها؛ لأنها عبارة عن أُلهيات عن الهدف السامي؛ وهو إسقاط الأنظمة، واستبدالها كلية بما فيها الأوساط السياسية الفاسدة، وإن الدخول في برلمانات أو حكومات تحت هذه الأنظمة العميلة المفسدة إنما هو إطالة لعمر الفساد، ودعم له وترقيع للثقوب المكشوفة التي تستر عورته. وإن على أمتنا أن تعمل للتغيير الانقلابي الشامل بإسقاط الأنظمة العميلة، ووضع الإسلام موضع التطبيق العملي، والالتفاف حول المخلصين العاملين في هذا الطريق.. وصدق الحق القائل: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام بالتغيير الجذري الصحيح، وأن يصرف عنهم مكر الحكام وأضاليلهم وتحريفاتهم.
رأيك في الموضوع