تتجه الأوضاع في تونس نحو جولة جديدة من الاحتجاجات الشعبية المدفوعة من الاتحاد التونسي للشغل بعد التصعيد المتبادل بين الحكومة والهيئة الإدارية للاتحاد. فبعد قرار وزارة التربية والتعليم خصم ستة أيام من أجور الأساتذة الذين قاطعوا إجراء امتحانات الثلاثي الأولوبعد أن قادت جامعة التعليم الثانوي العديد من المسيرات الغاضبة والاعتصامات المفتوحة أمام المندوبيات الجهوية للتعليم وفي العاصمة، قررت الهيئة الإدارية للاتحاد إعلان إضراب عام في القطاع العام والوظيفة العمومية يوم 17 كانون الثاني/يناير 2019.
وتتهم نقابة التعليم الثانوي التي تقود هذا التحرك المطلبي وزارة التربية بالمماطلة والسلبية في التعامل مع مطالبها الداعية إلى تحسين الوضعالمادي للمدرسين بالترفيع في قيمة بعض المنح وتخفيض سن التقاعد. أما الأمين العام للاتحاد فقد أصبح في المدة الأخيرة يتهم الحكومة صراحة بالخضوع لقرارات صندوق النقد الدولي الذي فرض على الحكومة تجميد الأجور في القطاع العام بدعوى إصلاح الميزانية العمومية وإيقاف الانتدابات وتشجيع التقاعد المبكر من الوظيفة العمومية من أجل الضغط على كتلة الأجور.
ولئن كان الاتحاد محقا في توجيه الاتهام إلى الحكومة بخضوعها لشروط صندوق النقد الدولي وما نتج عن ذلك من زيادة البطالة وتدني مستوى خدمات التعليم والصحة، فإن المدقق في مسيرة الاتحاد عبر السنين الماضية يدرك أن إقحام موضوع سياسة الصندوق هو جزء من التصعيد مع الحكومة ولإحراجها سياسيا والضغط عليها لتخفيف أثر تلك الشروط على الموظفين وليس من أجل تحرير البلاد من هذه السياسة المقيتة التي يتعدى أثرها الموظفين والشغالين، وهو توظيف لموضوع سياسي مصيري للأمة من أجل الحصول على مكاسب مادية، وأن موضوع الصندوق سوف يتم تناسيه مع أول اتفاق مع الحكومة في زيادة للمنح والأجور.
وقد سبق لهذا الاتحاد أن التزم بما يسمى السّلم أو الهدنة الاجتماعية لسنوات عدة زمن بن علي أي منع الإضرابات والاحتجاجات مقابل زيادات سنوية في الأجور تم خلالها تمرير اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 والذي أدىإلى تدمير القطاع الصناعي في تونس وتسريح آلاف الموظفين في صمت تام من قيادات الاتحاد.
لذلك فرغم رفع بعض الشعارات السياسية أثناء الاحتجاجات فإن المطالب الأساسية المحركة للعمل النقابي والتي يتوقف عليها مواصلة أو إنهاء التحركات والإضرابات هي المطالب المادية وهو ما يجعل الحكومات قادرة على احتواء هذه النقابات وترويضها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
ولئن كان الاحتجاج المطلبي يمثل جزءاً من حركة الشعوب ضد الظلم والقهر، إلا أنه لا يحمل تصورا واضحا عن التغيير المنشود لأنه يستهدف أعراض المشكلة لا جذورها. والاحتجاجات المطلبية تجمع كثيرا من الناس لأنها لا تُظهر الخلافات السياسية بل تجمع الفُرقاء لأنها تدور حول مشاكل حياتية عامة. والاحتجاج المطلبي يستهدف تحقيق بعض المطالب الجزئية التي تدور حول تحسين الظروف المعيشية، وهو لا يسعى لتغيير الواقع بل يسعى لبقائه وتحسينه في الوقت نفسه، لذلك فإن تلك الاحتجاجات تُواجه عادة بالتجاهل، لأنه يسهل اختراقها والقضاء عليها وإبقاء منظومة الحكم وطبقة الحكم.
أما الاحتجاج الثوري فهو يستهدف جذور المشكلة لا أعراضها، أي يستهدف تغيير النظام السياسي لحل المشكلات، لأنه لا يمكن تصور تغيير واقع الأمة الإسلامية والتخلص من الفساد والظلم والفقر دون التخلص من واقع التبعية الذي نعيشه واستمرار الدولة القُطرية العلمانية الحالية في القيام بدور الوكيل المحلي للمستعمر الغربي الرأسمالي الصليبي. لذلك كان لزاما أن يحمل الاحتجاج الثوري صورة عن التغيير المنشود كي لا تتحول الثورة إلى نوع من العبث والفوضى.
وبالنظر إلى ما وقع في تونس بعد الثورة ودور الاتحاد العام التونسي للشغل فيه نجد أن الثورة التي قامت على شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" قد تحولت إلى حركة احتجاجية مطلبية كان لهياكل الاتحاد دور كبير في إشعالها والإشراف عليها. وقد ساهم ذلك في إبعاد فكرة التغيير الجذري للنظام السياسي بحجة أن عرض موضوع الهوية يثير الخلافات الأيديولوجية، وأن تحسين الظروف المعيشية بالزيادات في الأجور والانتدابات والترقيات هو من الأولويات المُطلقة. وبعد سنوات من الثورة اكتشف الناس أن النظام لم يسقط وإن ذهب رأسه، وأن الأوضاع المعيشية ازدادت سوءا رغم زيادات الأجور وأن البلاد ازدادت غرقا في المديونية والتبعية والضغوط الخارجية.
أما الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحصّل على جائزة نوبل للسلام سنة 2015 لدوره في تصفية ثورة تونس، فقد أصبح محطة لزيارة سفراء الدول الغربية وخبراء صندوق النقد الدولي وأصبح له رأي في اختيار رئيس الحكومة وأعضائها رغم الاحتجاجات والمناكفات الإعلامية الظاهرة.
عندما يتحول الاحتجاج المطلبي إلى احتجاج ثوري يستهدف تغيير النظام السياسي وتحرير الأمة من التبعية المقيتة للغرب الرأسمالي الصليبي وتؤسس الدولة من جديد على أساس عقيدة الأمة وحضارتها الإسلامية يكون ذلك الاحتجاج خطوة نحو التغيير، أما عندما تتحول الثورة إلى حركة احتجاج مطلبية كما حصل في تونس فإن ذلك التحول يصبح انقلابا على الثورة ومؤامرة خبيثة عليها.
بقلم: الدكتور محمد مقيديش
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع