دعا الرئيس الفرنسي ماكرون؛ في مناسبات عدة إلى تشكيل قوة أوروبية؛ تتولى الدفاع عن أوروبا الموحدة تجاه الأطماع الروسية والصينية والأمريكية؛ ففي اجتماعه في بروكسل 19/11/2018 بعد زيارة لدول أوروبية عدة أعاد ماكرون ما عرضه من قبل (تشكيل الجيش الأوروبي الموحد). وكان قد دعا في الاحتفال بالمئوية الأولى لنهاية الحرب العالمية الأولى؛ في مقابلة لإذاعة (أوروبا-1) إلى إنشاء جيش أوروبي حقيقي؛ للدفاع عن القارة؛ التي قد تضطر لمواجهة قوى كبرى؛ مثل روسيا والصين وأمريكا، وبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة في 6/5/2017 كان ماكرون قد جدد الدعوة التي تم الاتفاق عليها في (ماسترخت) لإنشاء جيش أوروبي موحد في ظل أوروبا موحدة.
فما هي حقيقة هذه الدعوات الفرنسية المتكررة؟ وهل تستطيع أوروبا بالفعل أن تقوم بهذه الأعباء في ظل الأزمات المتكررة؛ المالية منها على مستوى الاتحاد، والداخلية على مستوى الدولة الواحدة، والانفصالية كما حصل مع بريطانيا، وما زال يحصل من أكثر من دولة تهدد بالانفصال؟
إن الاتفاق الذي حصل في (ماسترخت) سنة 1992 نحو الوحدة الأوروبية، وتشكيل قوة أوروبية قد دعا إلى أسس مستقبلية، وبرامج عملية لإيجادها في الواقع منها:
1- وضع الأسس التطويرية نحو التوحيد الاقتصادي والنقدي والسياسي، كمقدمة لخلق الوحدة الأوروبية.
2- وضع استراتيجية للتوسع المستقبلي، ودخول أعضاء جدد؛ خاصة باتجاه أوروبا بقسميها الشرقيوالغربي؛ وفق شروط معينة في القبول والعضوية...
3- توسيع نطاق المسئوليات الخارجية للاتحاد، وإجراء الإصلاحات الديمقراطية، وتطبيق سياسة السوق الحر...
- وقد وضعت هذه الدول الأوروبية خططاً عملية؛ بناء على هذه الأسس منها: (خطة إنشاء اتحاد أوروبي مرن؛ يسمح بانضمام أعضاء جدد، وإصدار عملة موحدة بحلول عام 1999، ومباشرة إنشاء سياسة أمنية ودفاعية موحدة، وذلك على أساس المبادرة الفرنسية لإنشاء جيش أوروبي موحد مشترك.
لقد قامت الدول الأوروبية المؤسسة للاتحاد بأعمال متعددة، بناء على اتفاقية (ماسترخت)؛ منها الوحدة النقدية اليورو، ومنها اتفاقات تجارية وتعاونية، وإنشاء سوق داخلية، والصندوق النقدي للتعاون الأوروبي، ووضع تشريعات لتمويل أنشطة القطاع العام، والبنك المركزي الأوروبي الموحد، ووضع معايير اقتصادية توحد السياسة المالية بين دول الاتحاد وأسعار الفائدة... وغير ذلك من برامج وسياسات تدعم مشروع الوحدة.
لقد مضى على اتفاقية ماسترخت أكثر من ربع قرن، ولم يتحقق من تطلعات أوروبا نحو الوحدة الشاملة سوى القليل من البرامج والتطلعات. وواكب هذا الفشل مشاكل عديدة، وعقبات كأداء صارت تهدّد وجود هذا الاتحاد بشكل عام بالتفكك والزوال. ومن هذه العقبات والمشاكل التي واجهت وما زالت تواجه الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا نحو الوحدة والاندماج السياسي والعسكري:
1- أزمة المديونية والبطالة؛ التي تهدد الكثير من دول الاتحاد بالانهيار الاقتصادي. والسبب أن هذه الدول قد ارتقت بنفسها إلى مستوى اقتصادي هي ليست في مستواه، وليس عندها القدرة على تسديد تبعاته. ومثال ذلك أزمة اليونان العميقة؛ حيث استدانت أموالا طائلة؛ لرفع مستوى النمو وذلك ليوافق شروط الاتحاد الأوروبي، ولكنها بعد ذلك عجزت عن سداد حتى فوائد الديون الربوية، فوقعت في أزمات متتالية.
2- مشاكل عرقية ونزعات ضد مسألة الدمج العرقي؛ لأن الشعوب الأوروبية لها تاريخ طويل من العداء والعنصرية. وقد برزت هذه النظرة باتجاهين الأول: ضد الأوروبيين كما حصل في ألمانيا ونشوء حزب النازيين الجدد. والثاني: ضد المهاجرين من الدول الأخرى غير الأوروبية، وقد حصلت مظاهرات عديدة ضد الهجرة إلى أوروبا.
3- نزعات الانفصال داخل الاتحاد على مستوى الأحزاب الداخلية والدول. وقد خرجت بريطانيا بالفعل من الاتحاد. وربما تتبعها دول أخرى باتجاه الانفصال متأثرة بها. فهناك دعوات للانفصال لدى كل من فرنسا والمجر واليونان والسويد والدنمارك وهولندا. ففي هولندا دعا خيرت ويلدرز، رئيس الحزب الشعبوي اليميني إلى إجراء استفتاء في هولندا مماثل لما جرى في بريطانيا. وفي فرنسا دعمت زعيمة الحزب اليميني المتطرف مارين لوبين خروج بريطانيا من منظمة الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى المصير المشابه الذي ينتظر فرنسا حال قاد حزبها البلاد.
4- أزمات داخلية في بعض الدول احتجاجا على محاولات الإنقاذ الاقتصادي لمواكبة شروط الاتحاد. ومنها المظاهرات التي تجتاح فرنسا هذه الأيام؛ احتجاجا على رفع قيمة الضرائب لتوفير سيولة مالية، وتخفيف العجز في الموازنة العامة البالغة 2.9%، وذلك للتمشي مع شروط الاتحاد، ولتوفير سيولة للقيام بأعباء تتطلبها مشاريع الاتحاد؛ مثل فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد...
5- مشاكل دولية تتمثل بمعاداة أمريكا لمشاريع هذا الاتحاد، ولعملته الموحدة اليورو.
فلا يخفى ما تقوم به أمريكا من حرب معلنة وخفية؛ ضد دول الاتحاد الأوروبي من أجل تشجيعها على الانفصال؛ كما فعلت مع بريطانيا، وتقوم أمريكا أيضا بحرب تجارية تؤثر على تماسكها؛ تتمثل برفع الضرائب على الواردات الأوروبية، وبفرض حظر وعقوبات على بعض الدول ذات التجارة الحيوية مع دول الاتحاد مثل تركيا وإيران.
6- ضعف الدول الأخرى باستثناء ألمانيا عن القيام بالأعباء الاقتصادية تجاه مشاريع الاتحاد المستقبلية. فألمانيا هي الدولة المميزة في الاتحاد بالفائض النقدي ومميزة أيضا بنشاطها التجاري الخارجي، وباقي الدول تقريبا إما في حالة عجز أو ذات نشاط وفائض نقدي متدن، حتى صارت هناك نظرة عند بعض دول الاتحاد أن المستفيد الأكبر من الاتحاد هي ألمانيا على حساب باقي الدول الأخرى، وأنها تسخر باقي الاتحاد في خدمة مصالحها الاقتصادية.
هذه أبرز المشاكل التي تواجه الاتحاد الأوروبي، وتهدد مصيره بالانهيار والتفكك. والحقيقة أن ثقل هذه المشاكل والمعوقات أمام الاتحاد الأوروبي، واتساع رقعتها يوما بعد يوم يحول دون الآمال والتطلعات والنزوع إلى العظمة والقوة والارتقاء والتقدم للأمام. ويمكن القول: إن مشروع الوحدة الأوروبية هو مشروع قائم على أسس واهية ضعيفة، والعقبات أمامه أكبر من المحفزات والدعائم.
وقد ظهرت بعض الآثار السلبية للبورصات الأوروبية والعالمية بالفعل؛ عندما قررت بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي فكانت خسائر كبيرة لدرجة أنه سمي باليوم الأسود للبورصات الأوروبية حيث تراجعت بورصة باريس بنحو 8% وفرانكفورت بأكثر من 7% تقريباً ولندن بنحو 5%. هذا عندما خرجت دولة واحدة من الاتحاد فكيف إذا انهار الاتحاد بالجملة؟ وكيف إذا كان صدى هذه الهزة في أسواق العالم الأمريكية والصينية والأوروبية؟!
وفي الختام نقول: إن الوحدة الحقيقية والصحيحة؛ هي المبنية على أسس راسخة ثابتة، ولا تؤثر فيها الهزات ولا المعوقات، وهي فقط الوحدة على أساس عقيدة الإسلام، والبناء الاقتصادي على أساس الإسلام هو البناء المتين الصحيح؛ حيث تتخذ الدولة نظام الذهب والفضة كأساس لكل المعاملات المالية داخليا وخارجيا، وتجمع الأقاليم في ظل هذه الوحدة عقيدةُ الإيمان؛ لا المصالح الاقتصادية ولا غير ذلك من منافع آنية سرعان ما تذهب وتزول. إن الخلافة هي فقط البديل الصحيح لكل هذه النظم والمبادئ المتهرئة الآيلة للسقوط... وصدق الحق تعالى القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهيد﴾.
رأيك في الموضوع