استطاع الأوروبيون أن يفرضوا أنفسهم في الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، فكان مكسبا عظيما لهم أشعرهم بالثقة بأنفسهم بعدما عزلتهم أمريكا لعقود منذ عام 1961 بعد اتفاقها مع الاتحاد السوفياتي، وبعد سقوطه عام 1991 حاولوا أن يثبتوا أنفسهم ولكن أمريكا تفردت في السياسة الدولية، إلى أن اهتز موقفها الدولي على إثر الضربات الموجعة التي تلقتها في العراق وأفغانستان وقرارها بالانسحاب منهما وأعلنت عدم انتصارها ومن ثم تفجر الأزمة المالية عام 2008. فبدأت بسياسة لينة ظاهريا معلنة المشاركة الدولية بشرط أن تكون القيادة لها. ولكن أوروبا اغتنمت الفرصة وضغطت حتى فرضت نفسها في الاتفاق المذكور.
وعندما رأى الأمريكيون أن موقفهم قد طرأ عليه ضعف وبدت سياستهم فاشلة، والأوروبيون بدأوا يتطلعون للعب دور قيادي دوليا، أرداوا انتهاج سياسة جديدة تبناها رئيسهم ترامب متخذا مواقف صلبة علنية تجاه الأصدقاء والأعداء مرجحا مصالح أمريكا التي أدركت أن الاتحاد الأوروبي يستفيد من صداقته لها ولا يفيدها فأرادتأن تضع حدا لذلك. ولهذا قال ترامب يوم 27/6/2018 "الاتحاد الأوروبي وجد بالتأكيد للاستفادة من الولايات المتحدة"، بل قال يوم 15/7/2018: "لدينا الكثير من الأعداء.. أعتقد أن الاتحاد الأوروبي عدو بالنظر إلى ما يفعله بنا في التجارة".فدعا إلى تفكك هذا الاتحاد وأعلن عليه الحرب التجارية بفرض رسوم جمركية عالية.
لقد بذل الأوروبيون كل وسعهم لتلافي عداوة أمريكا، ولثنيها عن الانسحاب من الاتفاق النووي، فقاموا بالاتصالات معها على أعلى المستويات، لأنهم يدركون أنهم المقصودون من ذلك، ولكنها قررت يوم 8/5/2018 الانسحاب منه، ومقصدها ضرب أوروبا اقتصاديا وسياسيا.وقد أعلن ترامب يوم 30/7/2018 "استعداده للقاء القادة الإيرانيين من دون شروط مسبقة"، فيريد أن يعزل الأوروبيين ويمهد لعقد اتفاق منفرد مع إيران، وهذه العقوبات ستكون مبررة للنظام الإيراني للقبول بعقد اتفاق خاص مع أمريكا، فالمظاهرات تخرج في إيران احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية، ولا يستبعد أن توظفها الدول لحساب الاتفاق مع أمريكا.
وظهر تحدي الأوروبيين لأمريكا في موضوع هذا الاتفاق ورفضهم الانسحاب والعقوبات ضد إيران وإصرارهم على استمرار العلاقات الاقتصادية معها، وجابهوا الرسوم الجمركية بالمثل، وجذبوا إليهم روسيا والصين للمحافظة على الاتفاق، وهما اللتان لهما مصلحة بالوقوف في وجه أمريكا بسبب مواقفها ضدهما.
وأقرت المفوضية الأوروبية يوم 6/6/2018 تشريعاً يتيح التصدي للتأثيرات الخارجية للعقوبات الأمريكية على الشركات الأوروبية الراغبة بالاستثمار في إيران، واسمه "قانون التعطيل"، وقد أنشئ عام 1996 بهدف الالتفاف على الحظر المفروض على كوبا ولكنه لم يستخدم فعليا، وكان يتعين تعديله لينطبق على إيران. ويمنع القانون الشركات الأوروبية من الخضوع للتأثيرات الخارجية للعقوبات الأمريكية. وهو يفيد الشركات التي لديها مصالح أقل في السوق الأمريكية.
وأعلنوا في بيان يوم 6/8/2018 قائلين: "الاتحاد الأوروبي والشركاء الأوروبيون مصممون على حماية الشركات الاقتصادية الأوروبية التي تعمل مع إيران"، وقالوا: "الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي التزمت بالعمل ضمن أشياء أخرى على الحفاظ على قنوات مالية فعالة مع إيران واستمرار تصدير إيران للنفط والغاز". وقال وزير خارجية ألمانيا ماس يوم 27/8/2018 "يجري العمل على مقترحات إنشاء قنوات تبادل البيانات المصرفية مستقلة عن نظام سويفت الأمريكي في أوروبا.. علينا تعزيز استقلال وسيادة أوروبا في السياسة التجارية والاقتصادية والمالية.. لن يكون سهلا، لكننا بدأنا بفعل ذلك، نحن نعمل على مقترحات حول قنوات دفع وإنشاء أنظمة أكثر استقلالا عن سويفت وتأسيس صندوق نقد أوروبي".
وعندما بدأ ترامب يهدد بالانسحاب من الناتو قائلا: "حلف الناتو سيئ تماما مثل اتفاق نافتا"، بادرت فرنسا بدعوة دول أوروبية لتأسيس قوة عسكرية منفصلة عن الناتو تحت اسم "طليعة التدخل الأوروبي"، فوقعت تسع دول أوروبية يوم 25/6/2018 في لوكسمبورغ وثيقة تأسيس القوة. فوقعت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك وهولندا وإسبانيا والبرتغال وإستونيا هذه الوثيقة.فتصرفات أمريكا توحد أوروبا وتجعلها تتخذ مواقف مستقلة لتلعب دورا مستقلا.
كل هذه الأمور جعلت الأوروبيين يتوحدون ضد أمريكا إلا أن بينهم خللاً؛ ففي جسمهم دول تقض مضاجعهم كالمجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا لأمريكا تأثير عليها. فبدأ الاتحاد الأوروبي يتخذ منها مواقف جادة ويفرض عليها عقوبات. فمعنى ذلك أن الاتحاد الأوروبي يصر على اتخاذ موقف موحد ضد أمريكا رافضا مواقفها ومتحديا لها. وهذا يؤهله لأن يلعب دورا مستقلا عن أمريكا. فهذه عوامل عرقلة من دول أوروبية صغرى.
ولكن هناك عوامل عرقلة من دول أوروبية كبرى.فقائدتا أوروبا هما فرنسا وألمانيا، وتضامنهما معا يمكّن أوروبا من تحدي أمريكا والوقوف في وجهها، ولكن فرنسا تتحكم في سياستها عوامل رئيسية من سعيها لإظهار عظمتها ولقيادة أوروبا ومصالحها الخاصة في مستعمراتها وتخوفها من عودة ألمانيا دولة كبرى، بجانب رغبتها إقامة علاقات قوية مع أمريكا لتحصل على دور دولي كبير، عدا رغبتها بالتحرك مع بريطانيا. وإن قررت بريطانيا الانفصال عن الاتحاد فرأت الضرر جراء ذلك، فتريد أن تبقي على رابطة قوية مع أوروبا لتتقوى بها اقتصاديا وسياسيا في مواجهة أمريكا. وألمانيا المستفيد الكبير من الاتحاد تريد أن تصعد من خلاله إلى آفاق دولية فتتقوى بفرنسا وتختبئ وراءها عند التدخل في الأزمات الدولية للعودة كدولة كبرى عالميا. وكذلك صعود التيار القومي في كل دول أوروبا عامل معرقل ومؤرق للاتحاد الأوروبي.
هذه عواملتعرقل انطلاق أوروبا بمنأى عن أمريكا فإن لم تتجاوزها فإنه يصعب عليها لعب دور مؤثر مواز ومجابِه. فتحديها لأمريكا بالمحافظة على الاتفاق النووي ورفض العقوبات على إيران أظهر استطاعتها الانطلاق بدور مستقل، ولكن ذلك يجب أن يتجلى في كافة الصعد الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية باتخاذها سياسات مستقلة عن أمريكا، وهناك علامات تشير إلى ذلك، منها موقفها المخالف لموقف أمريكا فيما يتعلق بفلسطين وكيان يهود.
ومع كل ذلك، فإن هذا الوضع ينذر بتفكك المعسكر الغربي وانهيار مبدئه الرأسمالي وسقوط مؤسساته المالية والسياسية والعسكرية ودخول أعضائه في صراع محتدم، ليبشر الناس كافة بقرب تخلصهم من شره المستطير، ومن ثم ظهور الخير والهدى، حيث إن من سنة الله أن يهيئ الأوضاع والظروف في المنطقة والعالم لظهور هذا الخير بصراع الأعداء والمتربصين بعضهم مع بعض، وعدم تكاتفهم ضدنا، ليسهل تحييد بعضهم وكسب بعضهم ضد الآخر، فتقوم الخلافة الراشدة على منهاج النبوة فيعلو الإسلام ويعم خيره الأرض.
رأيك في الموضوع