(مترجم)
في الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى الديمقراطية على أنها الطريق إلى الخلاص، فإن العديد من عميقي التفكير من الغرب يقولون إن الديمقراطية قد أثبتت فشلها، ويكتبون كيف أنها قادت إلى "ثقافة المستهلك" التي أدت إلى مرض البشرية. فتعليقات وزير خارجية أمريكا هذا الأسبوع، ريكس تيلرسون، أظهرت أنه حتى دولة عظيمة كأمريكا عرضة لخطر التلاعب نفسه الذي يتعرض له الأمريكان العاديون وذلك بخلق رغبات مصطنعة.
وتُعرَّف ثقافة المستهلك بأنها ثقافة ينطوي فيها المستوى الاجتماعي والقيم والنشاطات على استهلاك السلع والخدمات. حيث قال المؤلف والمرشح لجائزة نوبل للسلام، بريانت ماكجيل: "في حياة المستهلكين نحن نصبح ما نستهلكه - نفايات صالحة للاستعمال مرة واحدة ليتم استخدامها ومن ثم رميها بعيدا"، وقد أدت عقود من التلاعب بعقلية المستهلك إلى "انتشار تدريجي لوباء الإحباط"، وذلك حسب جون اف سكوماكر، والذي قام بتأليف حوالي 10 كتب. حيث كتب: "وبما أن حياة المستهلك تدور حول المبالغة الشديدة برغبات مادية ذات مستوى منخفض واصطناعية لا معنى لها، فهي سرعان ما أُحيطت بالضجر، والاستياء. وذلك لأن الإنسان يجد كل ما في الحياة غير مثير للاهتمام وغير مُجز". وهذا ليس بالأمر المفاجئ، حيث إن الإنسان يتميز بقدراته الخلّاقة، بينما تقوم ثقافة المستهلك بتركيز الإنتاج والإبداع بأيدي شركات قليلة وضخمة، وبالتالي تحويل أغلب البشر إلى مستهلكين سلبيين. وقد غلب على الطعام "الوجبة السريعة" و"المشروبات الغازية" والآن فإن مواقع التواصل الإلكتروني تشارك وتؤيد الآراء عوضا عنا حتى إننا أصبحنا لا نحتاج إلى التظاهر بالتفكير عن أنفسنا، والبشر الآن مشغولون جدا بالاستهلاك إلى درجة أنهم لا يجدون وقتا لأنفسهم أو لغيرهم. ولا شيء من هذا هو حادث تكنولوجي.
ففي عام 1927م، قام بول مازور، وهو مصرفي من وول ستريت يعمل لدى ليمان بروذرز، بشرح في مراجعة للأعمال في هارفارد قائلا: "يجب علينا أن ننقل أمريكا من ثقافة تعتمد على الاحتياجات إلى ثقافة تعتمد على الرغبات. يجب تدريب الناس على الشعور بالرغبة، وبإرادة أشياء جديدة، حتى قبل أن تُستهلك القديمة منها بشكل كامل. يجب علينا أن نعيد تشكيل عقلية جديدة. حيث يجب على رغبات الشخص أن تطغى على احتياجاته".
وقد كان لبول مازور شريك عمل ذو تأثير كبير يدعى إدوارد بيرنايز، والذي كان خاله المحلل النفسي سيغموند فرويد. وقد أصبح بيرنايز سيدا في التلاعب المجتمعي، وقد تم توظيفه من خلال شركة سجائر أمريكية تدعى أمريكان توباكو، وذلك لإقناع النساء الأمريكيات بالتدخين وهذا ما كان مخالفا لأعراف ذلك الوقت. وفي 1929م قام بتنظيم موكب لدعم تدخين النساء في الأماكن العامة ولجعل الدخان مواكبا للموضة وكرمز "لمشاعل الحرية" بهدف جعل النساء يشعرن أن التدخين هو دليل على الرغبة في التحرر. حتى إن اللون الأخضر تم الترويج له كلون مواكب للموضة للنساء وذلك ليتوافق مع لون علب الدخان. وقد حققت الحملة نجاحا كبيرا؛ حيث بدأت النساء الأمريكيات بالتدخين بشكل علني وحققت أمريكان توباكو الكثير من الأرباح.
والتلاعب لا يقتصر من أجل تحقيق الربح. فقد كتب بيرنايز: "إن التلاعب بالوعي والذكاء للعادات المنظمة ولآراء الجموع هو عامل مهم في المجتمع الديمقراطي. فأولئك الذين يتلاعبون بهذه الآلية غير المرئية للمجتمع يشكلون حكومة خفية هي القوة الحاكمة الحقيقية لهذه البلاد. فنحن محكومون، وعقولنا مقولبة، وأذواقنا تم تشكيلها، وآراؤنا مُقترحة من قبل رجال لم نسمع بهم من قبل... تقريبا في كل تصرف في حياتنا اليومية... فنحن مُسيطر علينا من قبل عدد قليل من الأشخاص... الذين يمسكون بالخيوط التي تتحكم بعقول العامة".
واليوم، وبوجود محركات البحث الضخمة على الإنترنت وشركات التواصل الإلكتروني تتبع أفكارنا وتصرفاتنا، فإن أولئك الذين يسعون للسيطرة على عقول العامة أصبح لديهم إمكانيات كبيرة جدا مقارنة بالسابق! حتى إن الحكومات المنتخبة تخشى أن تفقد السيطرة على عوامل خارجية. فعندما قال وزير خارجية أمريكا ريكس تيلرسون: "إن روسيا قد قامت بالتدخل مسبقا في الجولة القادمة من الانتخابات الأمريكية، ومن أنه لا يوجد الكثير مما يمكن لأمريكا فعله لإيقاف ذلك"، فإنه ببساطة قد اعترف أن الانتخابات تقوم على التلاعب بالرأي العام، والذي تطور الآن ليتخطى حدود الدول.
إن بعض المفكرين الغربيين يتمنون التغيير. حيث قال إريك فروم: "لا يمكننا أن نجعل من الناس عقلاء من خلال جعلهم ملائمين لهذا المجتمع. نحن بحاجة إلى مجتمع يلائم احتياجات الناس"، وقال سكوماكر: "إن كل الإشارات تدل على أن نظامنا الذي عفا عليه الزمن - والذي يدعوه البعض "الرأسمالية الكارثة" - سيسود حتى ترسم كارثة عالمية توجهات ثقافية جديدة".
إلا أن التوجهات الثقافية الجديدة هي بين يديك وحدك والعالم بأجمعه يحتاجك. قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [سورة البينة: 1-3]
رأيك في الموضوع