منذ ما يسمى "صفقة القرن" تخفي أمريكا في جعبتها مشاريع للمنطقة ولكن يبدو أنها لم تبلور صفقتها للقرن بعد وتترك التكهنات حديث صالونات السياسة والمحطات الإخبارية وممتهني السياسة، فصفقة القرن التي ادعت الإدارة الأمريكية أنها صفقة إقليمية والتي كان أولها اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لكيان يهود وعزمه نقل السفارة الأمريكية لها مطلع العام المقبل يبدو أنها صفقة تحمل في طياتها ملفات أعقد من ذلك بكثير والتي لن يكون آخرها ما يسمى (مشروع دولة غزة)، ومع أنها كذلك ما زالت في طور الغموض والتكهن، إلا أنه يبدو أن الإدارة الأمريكية تعمل على طرحها مشروعا قابلا للتنفيذ بتواطؤ إقليمي ظاهر، ويقوم (مشروع دولة غزة) المزعوم على إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة تُضم لها أراضٍ من سيناء المصرية، بالمقابل يقوم كيان يهود بضم المناطق المسماة مناطق "ج" في الضفة الغربية والتي تشكل ما نسبته ٦٢% من مساحة الضفة الغربية، وبذلك يكون كيان يهود قد حقق اعترافا بحقه بحوالي 90% من مساحة فلسطين، وبمقابل تنازل مصر عن بعض مساحة سيناء فإن كيان يهود سيعطيها جزءاً من أراضي النقب، ويتضمن هذا المشروع المقترح تنازل مصر لأهل فلسطين عن رفح والشيخ زويد بحيث تتوسع غزة إلى حدود العريش، ويعمل يهود بالمقابل على مساعدتها بإقامة محطات تحلية تغطي العجز المائي المصري بسبب سد النهضة الإثيوبي وقد كانت الصحفية اليهودية شمئريت مائيري المراسلة السياسية في إذاعة جيش كيان يهود قد قالت: (إن السيسي بالفعل قدم لنتنياهو خطة لإقامة دولة فلسطينية في شمال سيناء تضم غزة)، وكان زعيم حزب "البيت اليهودي" أقر بصحة ما ورد بالتقرير حول مقترح السيسي ورئيس الشاباك يعقوب بيري ووزير العلوم والتكنولوجيا السابق الذي قال: (إن كرم السيسي في الاقتراح أذهلنا)، وقد علق على هذا وزير الطاقة الذرية الذي قال: (إن إعطاء الفلسطينيين أراضي من سيناء وإقامة دولة فلسطينية هناك وحصول المدن بالضفة الغربية على حكم ذاتي مقابل تنازل الفلسطينيين عن طلبهم انسحاب (إسرائيل) لحدود 4 حزيران هي إحدى علامات الساعة).
إن مشروع دولة غزة الذي تم تسريب بعض أخباره يجري بتواطؤ قديم جديد، فقد تم طرحه على عهد عبد الناصر ومن بعده السادات عميلي أمريكا، وتجدد بحثه زمن مرسي والآن يحمله السيسي عراب يهود في المنطقة، وهو يتفق مع حل الدولتين الذي ترغب به أمريكا ولكن ليس على حدود الرابع من حزيران، ويبدو أن المحادثات والزيارات واللقاءات المكوكية التي يجريها الزعماء وقادة بعض الحركات المسماة إسلامية ليست ببعيدة عن نقاش الدولة الموءودة هذه، فقد كان محور لقاء العقبة الذي جمع نتنياهو مع ملكالأردن ووزير الخارجية الأمريكية آنذاك جون كيري (21 شباط من العام 2016) ناقش حلا للقضية الفلسطينية ضمن رؤية جديدة، وتحدث حينها أوباما عن تنازلات مؤلمة ربما على الجميع أن يتحملها لا تكون على حساب الأردن أو مصر، وقد كشف محمود عباس عن لقاء جمعه بمحمد مرسي حيث كان الأخير عرض عليه إعطاءه 1000 كم مربع من أرض سيناء لحل القضية الفلسطينية حلا نهائيا ولكن عباس رفض العرض حسب قوله.
إن كيان يهود ومنذ تأسيسه يعمل بتواطؤ حكام المنطقة وليس بطاقة ذاتية، وهو يدرك أن حل قضية فلسطين لن يدوم إن لم يكن له سند دولي (أمريكي بالأساس) وسند إقليمي، وأن التمنع الذي يبديه حكام المنطقة هو للاستهلاك المحلي ليس غير؛ فالنظام في الأردن مثلا يدعي بأن أزماته وبالذات الاقتصادية آتية من موقفه (المتصلب) في قضية القدس، وكأن الأردن قبل قضية القدس الأخيرة كانت من الدول الإسكندنافية! وجزار دمشق وأبواقه تنعق حناجرهم ليل نهار بالممانعة التي بحجتها يقتل الناس وتستباح أعراضهم وكل من يفكر بالتغيير عنده عدو لدول الممانعة وعميل لكيان يهود مع أن وراثته للخيانة تكاد تكون بالحمض النووي، والسيسي وما أدراك ما السيسي! الذي ربما لا يتذكر أنه يحكم مصر ولربما لو قدر له الترشح عن حزب الليكود قد يسبق نتنياهو بالأصوات!
إن الحكام لم يكونوا في يوم من الأيام عقبة أمام أمريكا كما لم يكن آباؤهم عقبة أمام بريطانيا أو كيان يهود، فقد فعلت بريطانيا قبل قرن من الزمان ما هو أخطر من صفقة القرن أو مشروع دولة غزة فوافقوا بل وتواطأوا على تمزيق الأمة وتفتيت كيانها، ولكن أمريكا الآن صاحبة المشاريع تواجه بالأمة عقبة في طريق أي حل مقبول وإلا فإنها لا تلقي بالا للحكام فهي تفرض عليهم إن هم تمنّعوا أو ناقشوا، ولكنها تريد حلا يقبله الناس وتصنع له أبواقا وإعلاميين ووسطا سياسياـ
ولعل هذا الحجلان حول ما بدأ يتسرب عن مشروع دولة غزة هو أول الرقص! فتطهير سيناء من أهلها وتهجيرهم منها يبدو أنه ذو علاقة، ووجود رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وبعض من قيادات حماس في مصر واجتماعهم بمدير المخابرات المصرية ودحلان والمشهراوي لأيام هو أمر ذو علاقة، وزيارات تيلرسون للمنطقة (بمحادثات صعبة وشائكة) والتزامه بدعم النظام في الأردن على مدى السنوات المقبلة بالمليارات هو ذو علاقة أيضا، والظن أن الكل سيتعاون في إنجاح الإدارة الأمريكية، ولعل الضغط على غزة سيجعل لحماس مبررا للتنازل وهو ورقة دأبت حماس على استعمالها وبرعت بها حتى أوجدت لها رأيا عاماـ والنظام في الأردن قد صرح في أكثر من مناسبة بأنه لن يستطيع أن يتحمل كلفة القضية الفلسطينية وحده، والناس في الأردن، على حد زعمه، لم تعد تحتمل، ما يبرر له المزيد من التنازل والتفريطـ. أما عراب يهود السيسي فلا أظن أن لديه مشكلة مع أي شيء إلا مع الإسلام وحملته ولذلك صدق يهود حين قالوا: (إن السيسي هدية الله من السماء ليهود)!
وإذن فإن أمريكا تدرك أن أي حل ستفرضه أو تطلبه في صفقة القرن أو مشروع دولة غزة يجب تسويقه على الناس وإقناعهم به، ولا يكون ذلك إلا بالتضييق عليهم في معايشهم وأقواتهم حتى يصبح أمر السياسة ومشاريعها خلف ظهورهم بل تجعل جل همهم الأكل والشرب، فهي تراهن على مقولة ما لا يؤخذ بالقوة يحتاج إلى قوة أكبر؛ فسلاح الحروب داخل البلد الواحد سلاح قذر تمرر فيه مشاريعها، وسلاح الإفقار والتجويع سلاح قذر تمرر فيه مشاريعها أو على الأقل هكذا ظنها، ولكن ظنها هذا سيرديها؛ فإن الأمة ليست كأنظمتها عميلة، وإن الأفكار والمشاعر التي صنعها الإسلام لا تزول كبقعة زيت لامست ثوبها، فما زالت الأمة تعتبر كيان يهود جسما غريبا يجب قلعه من جذوره، وأي اتفاق بين الحكام ويهود لو قدر أن يجري عليه استفتاء وجمعت له التواقيع ربما لا يوقع عليه إلا الحكام وبعض من المتنفعين، وحتى من شاركت الأمة في صناعتهم من حركات إسلامية مسلحة وغير مسلحة فإن الأمة سرعان ما تلفظهم إن هم فرطوا أو تنازلوا، فحلم أمريكا بتسويق كيان يهود حتى يقبله جسم الأمة هو حلم طوباوي؛ فسكوت الأمة آت من ضعفها وقلة حيلتها وليس من قبيل التخاذل أو الخيانة، وإذا عاد لها سلطانها - وهو قريب إن شاء الله - فسوف تقتلع كيان يهود من جذوره ومن خلفه أمريكا. ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾
بقلم: الأستاذ خالد عبد الله
رأيك في الموضوع