لم تكن زيارة ماكرون الرئيس الفرنسي إلى تونس مطلع هذا الشهر شباط/فبراير 2018 مجرد تلبية دعوة لزيارة تونس قدمها إليه رئيس تونس الباجي قائد السبسي، بل كانت زيارة استراتيجية في إطار جولة يقوم بها، فبعد تونس توجه مباشرة إلى السنغال وفق برنامج أعلن عنه منذ شهر كانون الأول/ديسمبر 2017 خلال قمة المناخ التي انعقدت في باريس.
وتأتي هذه الزيارة في ظروف سياسية واقتصادية استثنائية تشهدها تونس التي عاشت على وقع تحركات عارمة منذ مطلع شهر كانون الثاني/يناير الماضي احتجاجا على غلاء الأسعار وصعوبة العيش وخاصة بعد المصادقة على قانون المالية الذي زاد الطين بلة، وبعد أيام على إخراج تونس من لائحة الاتحاد الأوروبي السوداء للملاذات الضريبية التي نشرت في بروكسيل في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، وانتقالها إلى اللائحة الرمادية أي الفرصة الأخيرة لتراجع قوانينها وسياساتها بالشكل الذي يرضي دول الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى تعيش فرنسا ومنطقة اليورو على شبح الأزمات الاقتصادية وارتفاع نسبي لمعدلات البطالة والفقر، الأمر الذي استغله ماكرون في حملته الانتخابية وروج إلى أنه هو المنقذ والحل.
إن زيارة ماكرون إلى تونس بدأ الحديث عنها منذ ما يزيد عن الشهر وتواترت التساؤلات الموجهة من الإعلام عما ستقدمه هذه الزيارة إلى تونس من مصالح ودعم اقتصادي وعن صدق فرنسا في وعودها السابقة، بل قد توجه طيف واسع منهم إلى تحليل شخصية الرئيس الجديد وعن انفتاحه في سياسة فرنسا الجديدةفي تمهيد واضح لما سيتخلل الزيارة واستباقا لأي رفض شعبي أو سياسي لها.
ولكن شكل استقباله الذي فرضته السلطة في تونس من خلال تعليق الأعلام الفرنسية في شوارع تونس ومن خلال الهالة الإعلامية التي ركزت على كل تفاصيل زيارته بين الرسميات الدبلوماسية وبين التفاصيل الاتصالية الأخرى من جولات في الأسواق والتقاطه لصور السيلفي، أبرز أن مستوى التطلّعات والآمال التي علّقها عليها المسؤولون التونسيون الذّين تجنّدوا لاستضافة هذا "الزائر الاستثنائيّ". ماكرون الذّي قدّم الكثير من الوعود وراهن على بريق المصطلحات والنوايا، أثبت من خلال زيارته أنّ رهانات فرنسا خلال الفترة القادمة تبدو بعيدة عن رهانات الحكومة التونسيّة، فبينما يبحث هذا الرئيس عن إنجاح الملتقى الفرانكفوني في تونس سنة 2020، كان حكّام القصبة وقرطاج ينتظرون جرعات جديدة من الدعم المالي لتسكين الاحتقان الشعبي المتزايد.
ورغم أن برنامج الزيارة تعددت أعماله من توقيع اتفاقيات تحت عنوان "التعاون في مجال مكافحة (الإرهاب) و(التطرف)، وإنشاء صندوق لدعم التنمية والمؤسسات والمبادرات الشبابية في تونس، وإنشاء جامعة تونسية فرنسية خاصة بـأفريقيا والمتوسط"، إلا أن أبرزها كان ما ورد على لسان ماكرون من تصريحات خلال الندوة الصحفية التي عقدها مع نظيره السبسي التي لم يفوت فيها فرصة لعب دور الحكم على مسار تونس حيث راح يمجد المسار الديمقراطي في تونس، بل وقد دعاإلى أن تكون تونس نموذجاً لدول أخرى، كما أكد أيضا أن معركة "تونس" في الدفاع عن قيم الديمقراطية وحرية (الضمير) والمساواة بين النساء والرجال، في هذه اللحظة، هي معركته أيضا.
فخروج القوّات الفرنسيّة من تونس عقب إعلان الاستقلال الصوري في 20 آذار/مارس 1956، لم ينهِ الحضور الفرنسيّ في البلاد. هذه الحقبة الاستعماريّة التّي امتدت 75 سنة، حافظت للفرنسيّين على منطقة نفوذ كلاسيكيّة هُذّبت بصياغات جديدة أكثرها تداولا؛ "العلاقات التاريخيّة بين البلدين". هذه العلاقات التي فُرِضت منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، خلقت لفرنسا تأثيرا قويّا على القرار السياسيّ والثقافي وخصوصا على المستوى الاقتصاديّ. فعلى امتداد السنوات اللاحقة منذ منتصف القرن الماضي، استطاعت فرنسا أن تحافظ على مرتبة الشريك التجاريّ الأوّل لتونس، حيث تتصدّر المرتبة الأولى في حجم الصادرات إلى السوق التونسيّة بنصيب 16% وبقيمة إجماليّة تتجاوز 3 مليار دولار. وتشمل أغلب الصادرات الفرنسيّة المعدّات الميكانيكية والأجهزة الكهربائية والنسيج ومعدّات النقل. في المقابل، فإنّ السوق الفرنسيّة تستوعب 34% من الصادرات التونسيّة المكوّنة من المنتجات الغذائيّة والنسيج بقيمة 4 مليار دولار ولكن بامتيازات تخفيض الأسعار حتى يصل سعرها في الداخل إلى أضعاف مضاعفة مقابل سعرها النهائي في الأسواق الفرنسية.
ليؤكد ماكرون أنه ليس استثناء في سياسة فرنسا التي لا تتعامل مع تونس وباقي دول المغرب التي استعمرتها إلا بمنطق المحمية الخلفية التي توجه إليها التعليمات وتضع لها الأجندات حتى تكون علمانية كما أرادها الذين سبقوا ماكرون في الإيليزيه.
تصريح أثبت حقيقة الزيارة وخفاياها، ففرنسا لم تفوت أي فرصة للتدخل في شأن البلد منذ الاستعمار العسكري، ثم عبر دعم الدكتاتورية حتى إنها عرضت على بن علي إبّان الثورة دعمه في قمع الاحتجاجات واليوم ها هي تعمل عبر طيف من سياسيين منبوذين أو جمعيات مرتزقة تنشر أفكار الشواذ وثقافتهم المنبوذة في بلاد الزيتونة مقابل تمويل للاجتماعات والمأدبات.
حتى تجد منهم من يحرض المارة ويهددهم كي يصفقوا لماكرون حين مروره من السوق العتيقة أو يشعل الشموع بكاء على شارلي إيبدو التي تنشر صورا كاريكاتورية تسيء للإسلام والمسلمين وتنال من رسولهم الكريم e، وها هي هذه المرة لم تفوت الفرصة حتى لتحرج أدعياء الوطنية بنشرها صورة مسيئة لتونس وشعبها وأمنها.
ولكن في المقابل الكل يحس بالرفض الشعبي لماكرون وزيارته وتملق السلطة والسياسيين في استقباله والحفاوة بعدوهم، الأمر الذي عبر عنه حزب التحرير وجدان الأمة الذي لم يفوت بدوره فرصة رفع الصوت عاليا أمام البرلمان ويوجه إلى أعضائه رسالة تفكّرهم بالشرف والكرامة لما أصبحت مجرد شعارات لا يستطيع البعض حتى رفعها اليوم.
بقلم المهندس محمد ياسين صميدة
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع