في مطلع كل عام ميلادي تخرج لنا الدولة بما يسمى بالموازنة، يتم إعدادها من قبل المختصين في المجال المالي والاقتصادي، في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، وفي أواخر العام 2017م أخرجت وزارة المالية السودانية مشروع الموازنة العامة للعام 2018م، وتم تقديمها للبرلمان، لإجازتها لتصبح فيما بعد قانونا قابلاً للتنفيذ، ولكن قبل أن نخوض في واقعها ونسرد تفاصيلها، لا بد أن نتعرف على الموازنة ماذا تعني؟ ولماذا يتم إعدادها؟
الموازنة العامة للدولة هي بيان تفصيلي يوضح تقديرات إيرادات الدولة، ومصروفاتها، معبرا عن ذلك في صورة وحدات نقدية، تعكس في مضمونها خطة الدولة لسنة مالية مقبلة، تعمل على تحقيق أهداف الدولة، وهذا البيان يتم اعتماده من قبل السلطة التشريعية في الدولة.
إن الموازنة هي عمل سياسي، لأنها تكشف عن العقيدة السياسية التي تنتهجها الدولة من خلال قراءة نفقاتها وإيراداتها وتحليلهما، وكذلك عن النظام الاقتصادي الذي تتبناه، فهي وسيلة الدولة لتوجيه الاقتصاد العام، والبلوغ بالحالة الاقتصادية للدولة إلى الوضع الذي ترمي إلى الوصول إليه في الحياة الاقتصادية والسياسية.
وفي أواخر العام 2017م، قامت وزارة المالية بإعداد موازنة للعام 2018م في وقت يعيش فيه أهل السودان ظرفاً اقتصادياً قاسياً يكابدون فيه غلاء المعيشة، وتزداد قسوة في كل يوم، في ظل معدلات فقر عالية تفوق 46%، وتضخم 35% وبطالة تجعل الأحوال المعيشية صعبة لا تطاق، وفي وسط هذه المعاناة تمخض الجبل فولد فأراً، حيث عكفت وزارة المالية شهورا على إعداد الموازنة العامة، ثم خرجت لنا فيما يسمى مشروع موازنة العام الجديد 2018م.
فهي ميزانية مبلغها الإجمالي وصل إلى (173.1 مليار)، منها الإيرادات الضريبية، والأخرى بلغت 108.8 مليار جنيه، أي ما يعادل 63%. كما بلغت القروض الخارجية والاستدانة من الجمهور والنظام المصرفي بـ 55.3 مليار جنيه بنسبة 32% من إجمالي الموارد، مما يعني أن 95% ضرائب وقروض.
كما أعلنت وزارة المالية السودانية، رفع سعر الدولار الجمركي من 6.9 إلى 18 جنيهاً. (سودان تربيون 25/12/2017) بنسبة بلغت حوالي 200%، وقد طبقت الحكومة زيادة في أسعار الكهرباء في القطاع الصناعي، وتحرير سعر القمح، تحت ذريعة رفع الدعم المزعوم، المقدم من صندوق النقد الدولي!! كما تحدثت وزارة المالية عن رفع الدعم عن الجازولين، وعدت خطاً أحمر، وهو ما يعني ضمنياً رفعه عن بقية المحروقات (الغاز والبنزين وغيرهما)، وما يزيد الطين بلة حديث وزير المالية محمد الركابي الذي أقر بأن موازنة العام 2018 "ستشهد إجراءات اقتصادية قاسية وأن المشاكل الاقتصادية لن تحل بمرور الزمن وإنما باتخاذ الإجراءات الصحيحة". وتابع "كلما ضاقت سنضطر لاتخاذ إجراءات قاسية".
ولن نحتاج إلى كثير عناء لنثبت أنها ميزانية تورد الناس موارد الهلاك، فبوادر الفشل تلوح في الأفق، فأزمة غاز الطبخ اكتوى بنارها الجميع، وصفوف الرغيف أمام المخابز تبين بوادر المعاناة الحقيقية التي تمخضت عن تلك الموازنة.
فواجب علينا أن نكشف لأمتنا العظيمة الحقائق ونصدح بالحق في وجوه الظالمين، ونرسم الخط المستقيم أمام الخطوط المعوجة، فنقول وبالله التوفيق، مستندين في رؤيتنا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
أولاً: تمثل الضرائب والجمارك 63% من جملة الإيرادات أي 108.8 مليار جنيه من جملة 173 مليار جنيه، فهذا المبلغ كبير وهو أكل لأموال الناس بالباطل، ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾. وهذه الجبايات تنعكس على أسعار السلع كلها حيث تدخل في سعرها فتغليها، فتزيد من المعاناة، وتجعل الرعية يكابدون صعوبة العيش، فهذا يحول الحياة إلى ضنك، فأولاً وأخيرا إن الضرائب التي تدخل على الأسعار هي حرام شرعا، عنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الإمام أحمد.
ثانياً: إن الجمارك هي المكس، قال رسول الله e: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» ناهيك عن زيادتها بزيادة الدولار الجمركي أو ما شابه ذلك، فزيادة الدولار الجمركي، يزيد من الجمارك المفروضة على الواردات بثلاثة أضعاف، كما يزيد من ضريبة القيمة المضافة والرسوم الأخرى المفروضة على سلع الوارد بذات النسبة.
ثالثاً: أما ما يسمى برفع الدعم عن السلع مثل القمح وغيره فهو تنصل من الدولة عن واجبها الشرعي الذي كلفها بها الإسلام، وهو فرض على الدولة رعاية شؤون الناس، الذي يستوجب توفير المأكل والملبس والمسكن وغيره، حيث قال e: «الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (متفق عليه). علاوة على أن رفع الدعم كما هو معروف هو أحد روشتات صندوق النقد الدولي الذي يمليه على حكومة السودان، مما يدل دلالة قطعية على التبعية والخضوع للمؤسسات الكفرية الاستعمارية التي لا ترقب فينا إلا ولا ذمة، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
رابعاً: أما استناد تغطية عجز الميزانية على القروض، إن كانت داخلية فهي الربا المحرم، أو خارجية فهي الربا، بالإضافة إلى التبعية إلى المؤسسات والدول المقرضة فهو الانتحار السياسي، والوقوع في شراك الكفار، فالمشكلة تعالج بما هو الداء وأس البلاء، وهو كالمستجير من الرمضاء بالنار!
خامساً: ومن العجيب الغريب أن ميزانية مثل هذه تحول حياة الناس إلى جحيم وتنعدم فيها أدنى أنواع الرعاية، يقابلها نواب البرلمان بالتصفيق والتكبير، معلنين عن أنفسهم أنهم لا ينتمون لهذا الشعب وليس نواب عنه بل هم الأعداء الذين يصفقون لمعاناته، ولسياسات ترمي إلى حتفه.
سادساً: إن هذه الموازنة في جانبيها؛ الإيرادات والمصروفات، إنما هي تفكير ضمن منظومة النظام الرأسمالي، التي أورثت الناس ضنك العيش، ورهنت ثروات البلاد، بعد أن أغرقتها بفوائد الديون الربوية، وجعلتنا نتسول على موائد اللئام، ﴿ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، وإن الخروج من هذه الدوامة المفزعة، يبدأ بالرجوع إلى الإسلام، وأخذ المعالجات من أحكامه، لتصبح إيرادات الدولة ومصروفاتها أحكاماً شرعية، تُعبِّد الناس لرب العالمين.
بقلم: الأستاذ سليمان الدسيس
عضو مجلس ولاية السودان
رأيك في الموضوع