لا يوجد أدل على الوضع الذي وصلت إليه حالة الاتحاد الأوروبي من تصريحات قادته، حيث قالت المستشارة الألمانية ميركل يوم 16/9/2016 "ليس لنا أن نتوقع حلاً لمشاكل أوروبا في قمة واحدة. نحن في وضع حرج". وتصريح الرئيس الفرنسي أولاند: "إما أن نسير في اتجاه التفكك أو نعمل معا لضخ المزيد من القوة التي تدفعنا نحو إطلاق المشروع الأوروبي"، بعدما اجتمعا في قمة ثنائية بباريس يوم 15/9/2016 قبل اجتماع دول الاتحاد الأوروبي في براتيسلافيا عاصمة سلوفاكيا يوم 16/9/2016.
فألمانيا وفرنسا هما عماد الاتحاد الأوروبي وهما اللتان تقرران مصيره وترسمان سياسته. ولذلك قام زعيما هذين البلدين في ختام القمة بعقد مؤتمر صحفي مشترك بمعزل عن زعماء الدول الأعضاء الأخرى، مما يدل على ما ذكرناه وعلى وجود اختلافات بين الدول الأعضاء، فقال أولاند: "فرنسا وألمانيا ستواصلان العمل بحيث نتمكن من اتخاذ تدابير ملموسة"، وقالت ميركل: "فرنسا وألمانيا ستقومان بدورهما بشكل مكثف جدا في الأشهر المقبلة لجعل كل ذلك نجاحا". ومعنى ذلك أنهما لم يتوصلا لحل مشاكل الاتحاد.
وقالت مسؤولة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني يوم 8/9/2016 "ولكننا حاليا أمام مفترق طرق" وهي تعلن أنها ستعرض "خارطة طريق" على الاتحاد لتوحيده! وبعدما قالت: "إن نتائج التصويت في بريطانيا كانت صادمة وأجبرت قيادة الاتحاد على إعادة تشغيل المشروع الأوروبي الموحد". فتريد من أوروبا أن تتعافى من الصدمة وتندفع بقوة حتى تنقذ نفسها وإلا ستنهار، فدعت إلى "إنشاء قوة أوروبية مستقلة عن الناتو" لها ثلاثة أغراض: "الأول: موقف موحد من الأزمات والنزاعات، الثاني: تغيير بنية مؤسسات التعاون في مجال الأمن والدفاع، والثالث: فرصة لإنشاء صناعات دفاعية لعموم أوروبا" وأضافت: "علينا بصفتنا أوروبيين في العالم المعاصر أن نتحمل مسؤولية أمننا الجماعي وأن نتحمل جزءاً من هذه المسؤولية الأمنية ضمن مجال التعاون في إطار الاتحاد الأوروبي".
ولخصت شبكة "يورو نيوز" يوم 16/9/2016 الوضع بقولها: "عكس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بوضوح أن الاتحاد يعيش أزمة عميقة... بعض الدول تريد مزيدا من الاندماج فيما تريد دول أخرى مثل بولندا والمجر أخذ بعض السلطات من بروكسل، هذه المسألة ستولد في القمة إلى جانب مسألة (الإرهاب) والاقتصاد والهجرة".
وقال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك الذي وضع خارطة الطريق لجعل الدول الـ 27 الأعضاء تتبناها في القمة: "إن تقييمنا خطير لكنه ليس متشائما... وحدد الأولوية المطلقة لحدود الاتحاد من أجل عودة فضاء شينغن إلى عمل طبيعي على صعيد حرية التنقل"، وحدد رئيس المفوضية الأوروبية يونكر "شهر آذار/مارس 2017 تاريخا لإقرار الاتحاد الأوروبي مضاعفة خطته من الاستثمارات لتصل إلى 630 مليار يورو". وطالب "بإنجاز سلسلة من التدابير الأساسية بحلول حزيران/يونيو 2017 ومنها إنشاء قيادة عامة أوروبية موحدة لتنسيق كل العمليات المدنية والعسكرية الأوروبية"، وحضرت كل المواضيع الخلافية الأخرى في القمة كالعمالة المنتدبة وتوزيع اللاجئين داخل دول الاتحاد. وأكدت مجموعة "فيزغراد" التي تشكلت داخل الاتحاد وتضم "المجر، وبولندا، وسلوفاكيا، وتشيكيا" مرة أخرى معارضتها لأي آلية لتوزيع اللاجئين بصورة إلزامية مثل خطة "إعادة توزيعهم" التي أقرها الاتحاد في أيلول/سبتمبر 2015. مجموعة أوروبية معارضة داخل المجموعة الأوروبية! بل شرخ داخل الاتحاد كبريطانيا يهدد مصيره.
ولقد وجهت انتقادات شديدة للمجر حتى طالب رئيس وزراء لوكسمبرغ جان أسلبورن بإخراج المجر من الاتحاد لإعلانها "رفضها للاجئين المسلمين" مما اضطر رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان إلى المطالبة "بمعاملة المجريين باحترام"، وذلك بعدما اجتمع مع الألماني مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي الذي وجه إليه أيضا "انتقادات شديدة". وقال روبرت فيكو رئيس وزراء سلوفاكيا التي تستضيف الاجتماع يوم 16/9/2016: "إن سلوفاكيا لن تقبل استضافة لاجئ مسلم واحد". وأعلن أن "سلوفاكيا ترغب في استقبال لاجئين نصارى فقط".وقال رئيس وزراء التشيك بوهوسلاف سوبوتكا يوم 23/8/2016: "ليس لدينا هنا أية جالية مسلمة قوية. وبصراحة، لا نرغب في أن تتشكل هنا جالية مسلمة قوية انطلاقا من المشاكل التي نشهدها". بينما أعربت المستشارة الألمانية عن استيائها من رفض استقبال لاجئين لأنهم مسلمون.
كل ذلك يجسد مدى الانقسامات في الاتحاد الأوروبي ويجسد مدى الحقد الدفين لدى العلمانيين الديمقراطيين الأوروبيين. وما قبول دول كألمانيا وفرنسا للاجئين مسلمين إلا لأغراض سياسية من أجل فرض دولهم والاتحاد الأوروبي كقوة دولية للتدخل في الشؤون الدولية وللحصول على الاعتبار الدولي ولإيجاد تأثير في المنطقة الإسلامية لتحقيق المصالح الاستعمارية، مع أنه توجد معارضة بين الناس في دولهم لقدوم اللاجئين، وبسبب ذلك تعرض حزب ميركل مؤخرا لخسارة في انتخابات محلية في إحدى المقاطعات الألمانية أمام حزب "البديل لألمانيا" المعارض للأجانب وللاجئين.
أما الدول الأوروبية التي ليس لديها أغراض سياسية خارجية فترفض استقبال اللاجئين، وخاصة المسلمين، وهي دول منغلقة على نفسها كمجوعة "فيزغراد". فهي تصرح علانية بخوفها من وجود جالية إسلامية قوية، مع أن هذه الدول كلها علمانية ديمقراطية تدّعي أنها لا تميز بين الأديان وبين الناس، فسياساتها تكشف زيف العلمانية والديمقراطية وتبين أن التعصب ضد الإسلام هو سيد الموقف لديها.
كل ذلك يثبت أن العلمانية وهي أساس المبدأ الرأسمالي فاشلة، ونظامها الديمقراطي فاشل، فلم يستطع الأوروبيون أن يعالجوا مشاكلهم بهذا المبدأ بعد مرور ستة عقود على إنشاء الاتحاد، فتعصف به المشاكل العويصة والشائكة، لأن العلمانية الديمقراطية عاجزة عن حلها، ولم تستطع أن تصهر الشعوب في بوتقة المبدأ، وتوحد دوله وشعوبه، فلم تستطع أن تعالج مسألة القومية التي تنخر كيان الاتحاد وتهدده بالتفكك، فشعوبه ودوله لا تتنازل عن قوميتها في سبيل الوحدة، وتكره بعضها بعضا، وتخشى من سيطرة بعضها على بعض، فالشعوب الأوروبية تخشى من سيطرة الألمان أو الفرنسيين عليها. والتعصب الديني والكراهية للإسلام خاصة ما زالت تعمي أبصار شريحة لا يستهان بها في أوروبا برغم تبنيهم للعلمانية التي تفصل الدين عن الحياة، فيضاف إلى ذلك التعصب القومي ليصب في خانة العداء للمسلمين وهم يتشدقون أنهم لا يميزون بين البشر ويتبنون حقوق الإنسان والحريات.
فما لأوروبا من حل إلا مراجعة مبدئها والتفكير في الإسلام بجدية وموضوعية وإنصاف حتى تتخذه مبدأ لها، فهو خير دواء لإنقاذ أوروبا وشعوبها من أزماتها التي تهدد بتفكك اتحادها وتعيدها إلى دائرة الصراع ومن ثم الحروب كما في العصور الغابرة على مدى التاريخ.. فإلى الإسلام يا أهل أوروبا ندعوكم لحل مشاكلكم بشكل جذري وصحيح، فبه تحل عليكم الرحمة، وقد وصفه إلهنا وإلهكم الواحد الأحد وصفا دقيقا عندما أرسل محمدا eرسولا لنا ولكم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾.
رأيك في الموضوع